عن مسرح الشارع في مصر
مسرح الشارع ما بين وقفة الانتباه والزوغان
مقال ل/ياسر علام
مجموعة متنوعة من البشر محتشدة في الشارع حول مجموعة أصغر تقدم الثانية للأولى عرض فني. لا تستغرب هذا المشهد إن صادفك بعد شهر أو بضع شهر. سيقف ليشاهده من يقف، ويمضي في حال سبيله من يمضى، وقتما يشاء. لتتحقق حالة فرجة فريدة اختيارية، لا يستطيع أن يمنحها إلا فضاء الشارع الحر، -أعني بالحر الفضاء لا الشارع بالطبع-.
لقدت شهدت أرض الكنانة المحروسة في الشهور القليلة الماضية هذا المشهد عدة مرات. نستعرض هنا بعض هذه التجارب، ولكن دعنا نسمح لتساؤلاتنا المشروعة لا المشرعة بمناوشة هذه التجربة أولاً...
عرض مسرحي في الشارع يدفع المرء للتساؤل بداية: لماذا لا يقدم هذا العرض على خشبة مسرح؟! ومحاولة الإجابة على هذا السؤال تدفعنا لسؤال أخر: لماذا لا تقدم كل العروض على خشبة المسرح؟! بمعنى ثاني : لماذا مسرح شارع من أساسه ما دامت قاعات العرض متوفرة؟! الحقيقة أن هذا السؤال هو سؤال مغلوط ومعكوس، فالمنطقي أن نسأل لماذا لا يكون لدينا هنا مسرح شارع ؟!
ويصبح لهذا السؤال شرعية، إذا ما علمنا أن مسرح الشارع، اتجاه فني يجد رواجاً في معظم بقاع الأرض. ويصبح السؤال أكثر إلحاحاً إذا ما تذكرنا أن تراثنا يسمح بوجود مثل هذا النمط، وبل وقام عليه لا نقول لسنوات بل لقرون.
تراثنا في فنون الفرجة الشعبية شوراعجي ( حسب النسب العامي)، الشرق عموماً عرف العديد من حالات بها عناصر مسرحة، لا يمكن إغفالها تشكلت في هذا الفضاء بالذات. منها على سبيل المثال لا الحصر؛ خيال الظل، والأراجوز، الحكواتي، المحبظاتية، الحاوي، الفانوس السحري، وغيرها، وكلها أشكال تحتوي عناصر مسرحة بدرجة أو بأخرى.
هذا التراث الفني له ما يشبهه في العديد من مناطق العالم. وهناك اتجاه عالمي لإحياء تلك الأشكال. لكن تلك الأشكال -دعونا نقول- التي اندثرت هنا، ولم تلقى في الأغلب تقدير، أو محاولات جدية لحمايتها. ها هي ذي تعود من تلقاء نفسها!
ولنفهم بواعث عودتها للحياة، يجب أن نقف أولاً على بواعث احتضارها الأول. بعد أن قلنا أنها جزء من تراثنا، لحقه منا من لحقه في طفولته، ونشأت أجيال لم تشاهده إلا مشوها –أي عبر التليفزيون رائد رواد رياديتنا الإعلامية-، فلماذا تم تجاهل هذا الشكل؟!
حسنى النية سيقولون أنه ضاع ضمن ما ضاع في ظل إهمال، ولا علمية، وعشوائية ألفناها في وطننا الحبيب منذ عقود.. غير أن آخرين سيقولون بدون مواربة، عروض الشارع عروض مفتوحة مع الجماهير. يتم فيها تفاعل مباشر، طازج ، وحيوي بين المتلقي، والمؤدي. ينمي كل ذلك ثقة متبادلة وخلاقة بين الطرفين ثقة، وحميمية. تلك الحميمية لا يعرفها المسرح الصارم. أعني مسرح الخشبة، أو خشبة المسرح. حيث بقعة تمثيل معزولة عن الجمهور. وحين أقول معزولة، أقولها هنا بالمعنى الحقيقي والمجازي. فالخشبة معزولة عن الصالة بحكم المكان المنفصل. فهي منصة مرتفعة يحذر على الجمهور الاقتراب منها، فهي بقعة التمثيل المصونة. أضف إلي ذلك كونها معزولة عن التفاعل الحقيقي مع قضايا الجمهور، بما قد يستثير أولى الأمر، أو يسبب لهم سخط.
فإذا ما وعينا كل ذلك، وربطناه بحقيقة كون الأشكال الشعبية لا تعترف بمفهوم الرقابة. -كدت أقول ولا تعرفه-، وعلمنا أن الفنان الشعبي ذلك الذي يملك الحضور الحي، ومهارات الارتجال، والنقد اللاذع، بما يستلزمه ذلك من بذاءة لفظية، وتطاول، بلسان هو لسان حال الجماهير، علمنا لماذا كان من الضروري قمع هذا الشكل. والرغبة في التخلص منه، حتى ولو أدعى من أدعى العكس.
وليس من قبيل الصدفة أن تجلس، لترى فيلم تدور أحداثه في مطلع القرن العشرين، فترى فيه مثلاً إعلان عن محاضرة، يلقيها الأستاذ فلان الفلاني المحامي، بعنوان (الأخلاق الحميدة)، ويلقيها في المقهى الفلاني. أو لقاء مفتوح يعرض فيها فلان أفندي لتجربة الحج التي مر بها هذا العام. بمعنى ثاني أن المحاضرات العامة، واللقاءات المباشرة، التجمعات بكافة أشكالها كانت متاحة ومباحة. وعادة اجتماعية، وإلا لما رصدتها أفلام تلك المرحلة. غير أن عادة من هذا النوع قد اختفت لعقود، لسبب أظهر من أن يكرر.
إذن كان اختفاء فنون الأداء الشعبية القائمة على الفرجة ضرورة، مادامت التجمعات في الشوارع ممنوعة. ولعل المنتج الفني أن يصنف في ضوء هذا المفهوم، إما شغب، أو تسول، أو احتيال. فإذا ما أضفنا لما سبق، ما قامت به الثقافة الجماهيرية من اعتصار تلك التجارب في الأقاليم، لتضعها داخل فضاء خشبة المسرح المغلقة. أو العلبة الإيطالية كما يسميها أبناء الكار المسرحي. وبالفعل وهذا ليس كلام مجازي،
فنان شعبي بدون الشارع = سمكة أخذتها من المحيط لتضعها في علبة سلامون.
فنان شعبي بدون الشارع = سمكة أخذتها من المحيط لتضعها في علبة سلامون.
وأذكر جيداً عرض فنان شعبي، توارث فن خيال الظل عن أجداده، شاهدت له عرض في المركز القومي للمسرح منذ ثلاثة أعوام أو يزيد. أقل ما يقال أن العرض كان يحتضر على خشبة المسرح، أما الفنان الشعبي، فقد كان يرتعش حين وضع في بيئة تخالف تماماً بيئة عمله، وكان ينظر للنقاد المتخصصين في فنون الأداء الشعبي، وهو مرعوب، من أدوات التشريح التي ستمزقه في الندوة بعد قليل. هذا بالإضافة إلي أن صناديقه وأدواته بدت هزيلة عجفاء لا تناسب حجم المسرح، إنها لم تهيأ لتكون محاطة بالحوائط. والشاهد الآن يا عزيزي المتلقي وسواء أكنت من أنصار نظرية المؤامرة أم من حسني الظن، ستتساءل معي لماذا تنبعث تلك الفنون من رقدتها الآن؟! وما ملامح هذا البعث أو هذه الوالدة المتعثرة؟!
والحقيقة أن كلا السؤالين مرتبط بالأخر، فرصد شكل انبعاثها يخبرك لماذا تبعث هنا، والآن على وجه التحديد. وطريقة مخاضها تفصح لك عن تعثراتها، وما تعانيه، وما يدفعها للمقاومة. فإن كانت حالة المخاض السياسي المتعثرة التي تعانيها بلادنا، والتي نعاينها كل يوم، تجعلنا لا نكتفي بتعبير الروائي الكبير جمال الغيطاني بأنه "ثمة ما يتحرك في رحم هذا البلد"، بل ونضيف أن هذا الجنين قد بدت أجزاء منه بالفعل.
وكما قلنا أن فنون الفرجة الشعبية، هي لسان حال الشارع. متى كان هذا الفم مكمماً، التصقت تلك الكمامة بفم الفنان الشعبي، ومتى سمع صوت هذا الشعب، وأنينه متى سمع الصوت المعبر عنه فنياً. ليست الصورة وردية، ولا أريد لكلماتي أن تكون تبشريه، فتراهن على تجربة مسرح الشارع الحالية، وترها ضمير الأمة، أو شيء من هذا القبيل. غير أن جوهر وخصوصية فن الشارع، أنه يولد على الأرض. مثله في ذلك مثل الفعل السياسي النضالي الحقيقي. على الأرض يولد ومنها، و منها فقط يستمد فتوتة وجسارته. ولعل بعضنا يذكر كيف ولد حزب الله مثلاً، وما الذي وصل إليه الآن، بعد تجارب لسنوات حدث فيها جدل أنضجه، ووصل به إلي صورة تخالف بل، وتناقض لحظة التأسيس.
أحسب أن مبرر ميلاد مسرح الشارع في هذه اللحظة الخاصة جداً، التي يناضل فيها قانون الطوارئ للبقاء، ويكاد يحتضر غير مأسوفاً عليه، في هذه اللحظة بالذات كان سيكون من المستغرب عدم عودة الفنان الشوراعجي. ونحدد أكثر ما نعني فنقول:
إن مسرح الشارع يقدم وصفة عطار ماهر للمنطقة المحتقنة بين السياسي والفني. ويرصد لمشهد يمد فيها هذا، يده لذاك. وبقدر ما يحتاج السياسي الآن لخطاب؛ حاشد، حيوي، متفاعل، سيقدمه له الفن. بقدر ما يحتاج الفن الراكد لوعي؛ طازج، تعبوي، نضالي سيقدمه له السياسي. شرطاً أن تتم هذه المصافحة على قارعة الطريق.
إن مسرح الشارع يقدم وصفة عطار ماهر للمنطقة المحتقنة بين السياسي والفني. ويرصد لمشهد يمد فيها هذا، يده لذاك. وبقدر ما يحتاج السياسي الآن لخطاب؛ حاشد، حيوي، متفاعل، سيقدمه له الفن. بقدر ما يحتاج الفن الراكد لوعي؛ طازج، تعبوي، نضالي سيقدمه له السياسي. شرطاً أن تتم هذه المصافحة على قارعة الطريق.
نستعرض الآن بعض تجارب مسرح الشارع التي شاهدتها مصر في الشهور القليلة الماضية، نبدأها بتجربة فرقة حالة المسرحية، ولعلها الفرقة الأشهر في تقديم هذا الفن، وهي أحد فرق المسرح المستقل في مصر، مؤسسها هو المخرج محمد عبد الفتاح، خريج قسم المسرح كلية الآداب جامعة الإسكندرية، ولعلها من أكثر التجارب المسرحية إثارة للجدل بين متابعوها في العامين السابقين؛ فما تكاد تمضى عدة شهور حتى تفأجيء الفرقة محبيها بعرض جديد ساخن، ويكفي أن أقول أنه في حيز زمني لا يكاد يتجاوز العام وبضعة أشهر قدمت الفرقة عروض (سلام مربى)، ( أوذو لذيذ)، ( المادة 76)، والحقيقة أن هذه الفرقة على وجه التحديد تستحق أن نفرد لها مساحة خاصة، حول تجربتها، وقدرتها على مسألة كلاشيهات وشعارات اكتسبت مهابة إعلامية، على أي حال يدور عرض "أوزو لذيذ" عل سبيل المثال حول مجموعة من الشباب، ترتدي زى مموه يشبه زي جنود الصاعقة، ولا يقتصر التمويه على الزي فقط، بل أن وجوههم ذاتها تقطر منها أصباغ، تصنع بقع لونية تشبه بدرجة ما البقع اللونية المعروفة على الذي العسكري المموه، يدخل الصبية في زي الجنود، وبين أيديهم قطع حديدية متفاوتة الأشكال، لكنهم يحملونها بالشكل المعتاد للجندي الذي يحمل سلاحه، يكون نتاج تركيبها صنع مرجيحة دائرية ثابتة على الأرض في مركزها، الصبية تبحث طوال الوقت عن أوزو، وتطالب الجماهير بالمشاركة معها في مثل هذا البحث، غير أن هذا البحث يظل بلا طائل حيث ينتهي العرض دون أن يعثروا عليه، ليكون هو الحلم المستحيل، الذي لا يملك الإنسان الوصول إليه، لا ولا يملك نسيانه أو الانصراف عنه بالكلية، لعل الزي العسكري الذي يظهر به الصبية الضائعون بمثابة مناوشة ساخنة لمقولة الوطن، وكذلك في أن يتحول السلاح في أيديهم إلي مرجيحة، و تتعدد هنا التأويلات بين المرجيحة السلاح والسلاح المرجيحة، هل بالفعل ما نمتلكه من سلاح قد تحول إلي لعبة أطفال مقارنة بمنطق العصر؟! و هل تتحول تلك المرجيحة المهانة إلي سلاح شرف في مواجهة واقع مادي قاسي يفرمنا تحت عجلاته ونستحيل فيه لتروس؟!
فإذا ما تجاوزنا فرقة حالة المسرحية ومررنا سريعاً إلي فرقة السويس التجريبية وهي جمعية أهلية مستقلة، لوجدنا مشروع الفرقة يرتبط بعروض الشارع، وقد قدمت الفرقة في نوفمبر الماضي عرضها (البورش بيضحك ليه) في مهرجان شبرا للفرق الحرة، وقد حصد العرض عدة جوائز، وقد قدم في فضاء مكشوف، ساحة المؤسسة العمالية، حيث أحاط به الجمهور من عدة نواحي، وهو جمهور غير مدعو في الغالب بل استوقفته الظاهرة، وتلك ثمة كما أسلفنا تنتمي لها كافة تلاميذ مدرسة مسرح الشارع، العرض غنائي استعراضي في إطار يشبه زفة الأفراح والفرقة ذاتها تعمل بمنطق فرق الزفاف، ويكسبها ذلك ثقة واحترافية وتلقائية أولئك، مدير الفرقة هو المخرج محمد الجنيايني، وتأليف أحمد أبو سمرة، ويسهل من تسمية العرض ذاتها معرفة محور العرض الأساسي والهم السياسي الاجتماعي الإنساني الذي يصبغ كافة ممارسات فن الشارع.
وتشارك الإسكندرية القاهرة والسويس همهما فيقدم المخرج أحمد شوقي وهو مخرج معتمد وخريج أكاديمية الفنون قسم الدراما والنقد عرضه في مقهى الملك في المنشية عقب أحداث جحيم بني سويف 5 سبتمبر، وهي مقهى ذات طبيعة خاصة، يلتقي عليها بعض مثقفي الإسكندرية ومحبي الفنون، ليكون العرض مناقشة حرة ومفتوحة يديرها المخرج بذكاء وحساسية، ويفعل هو خميرة درامية، من قطع سردية يحفظها ممثلوه ويستشعر فيها المتلقى الطزاجة والصدق، وتم تدريب الجميع على مهارة الاشتباك مع أي كان في محادثات ثم العودة للخط الرئيسي وينتهي العرض في اللحظة التي يحاول فيها الفنان سؤال الحاضرين أن يتفقوا على أغنية يختمون بها العرض، وبديهي أن يحدث اختلاف، وعدم الاستقرار على أغنية فالجمهور لم يتفق من قبل مثل مجموعة العمل، لينصرف المخرج وقد حمل جمهوره من المثقفين مسئوليتهم بعدم قدرتهم على أخذ قرار جمعي، والانخراط في مطولات كلامية في ابسط الأمور.
أحدث جنين ينضم لفرق مسرح الشارع أنضم منذ ما لا يزيد عن شهر، وهي فرقة رؤى والتي قدمت عرضها في إمبابة أسفل كوبري الوحدة من إخراج أسامة سعد، ويدور حول مواطن لا يجد عمل فيقرر أن يعمل كقرد بعد وفاة قرد أحد القرداتية، وبالفعل يتعامل مع الجمهور في الشراع بوصفه القرد، المطالب بإسعادهم ولينال إحسانهم، وهو يستعرض حياته السابقة كإنسان ويحاول التخلص منها، إلا أنها تلح عليه ولا تتركه في حاله، باشتبكاتها الثقافية والاجتماعية والأمنية.
وكما هو واضح ثمة قواسم مشتركة تجمع مشاريع فرق الشارع التي لم يحدث بينها تلاقى حتى الآن لوضع أفق مشترك، مؤسسي أو فني، غير أنه يلوح في الأفق أن فاعلية من هذا النوع قد باتت ضرورة لهم، سيكون لها انعكاساتها الفنية في مشروعاته، بقى أن مصافحة من هذا النوع، مع مصافحة أخرى سبق أن أشرنا إليها، هي مصافحات لن يقوم بها أحد بالنيابة عن أحد، ولنتذكر أنه لا حصاد بلا ثمن، ولا منال بلا جسارة.
1 Comments:
At 11:46 AM, ممدوح رزق said…
خالص تحياتي
Post a Comment
<< Home