سيزيف مصري

في الأسطورة الأغريقية، سيزيف في الجحيم وعقابه أن يرفع صخرة من القاع حتي قمة جبل شاهق، وقبل أن يصل بقليل تسقط منه لأسفل، فيعود ليبدأ من جديد، بلا نهاية. ما أشبه ذلك بنا، أولادك يا بلدي

Monday, April 17, 2006

الدم المُراق في الإسكندرية.. فتش عن السلطة


سامر سليمان
samer_soliman@yahoo.com
استقرت الديموجرافيا المصرية منذ عدة قرون على وضع فيه أغلبية مسلمة وأقلية مسيحية. دخلت هذه التركيبة الدينية في المعادلة التي يجب على أي نظام حاكم أن يتعامل معها. من الملاحظ أن بعض النظم كانت تعرض القضية الطائفية بالشكل الآتي: النظام موجود لحماية الطوائف من بعضها البعض، خاصة لحماية الأقليات التي لو تُركت للدهماء لافترسوها. فالشعب المصري معظمه أمي. هذا هو خطاب السلطة. ليس هناك من شك في أن التعصب والكراهية يمكن أن يتحول لدى بعض القطاعات الشعبية إلى تراشق بالحجارة وتشابك بالأيدي وفي بعض الأحيان القتل، بل وفتل الأطفال كما حدث في بعض الأحداث الطائفية
ولكن تحميل المسئولية الأساسية عن التعصب للطبقات الشعبية هو بصراحة إنكار لحقيقة ساطعة للعيان وهي أن التعصب يأتي أساساً من السلطة. النظام يجد له مبرر وجود من خلال الأزمة الطائفية. فهو يقول أنه ليس باستطاعته الرحيل لأنه لو رحل لسالت بحور الدم في الشوارع. وبغض النظر عن صحة أو خطأ هذه المقولة، فإن نتيجتها العملية هو أن الحل الجذري المشكلة الطائفية من جذورها يفقد النظام أحد وظائفه الأساسية. اللهم احفظنا كلنا من شح الوظائف ومن نجاسة "اليد البطالة". لذلك لن يكون للنظام أي إرادة حقيقية لحل المشكلة. فمن مضيعة الوقت انتظار أن يتحرك النظام، فهو ليس لديه حل وهو لا يريد الحل. فكما توافقت النخبة المتعلمة على مناهضة الطائفية في سنة 1919، الأمر الذي ساهم في التوافق على مطالب ثورة الاستقلال، سيكون الخروج من النفق الطائفي اليوم على يد نخبة ما في المجتمع المصري المعاصر

لكن السلطة المستفيدة من الطائفية لا تقتصر على النظام، فهي منتشرة في المجتمع عندما يمارس البعض سيطرة على البعض الأخر. فليعذرني القارئ الكريم إذا دخلت في قصة شخصية، فهي كاشفة. فمحل الحلاقة الذي أتعامل معه يملكه شخص يعمل لديه أكثر من عشرة حلاقين بالأجرة، وهذا المالك غائب عن محل عمله. من هؤلاء العشرة مسيحي واحد. وهو الوحيد المخول له محاسبة الزبائن لصالح صاحب المحل المسلم. هل المهمة موكولة له لاعتبارات خاصة بأمانته أم لانتمائه الديني؟ أعتقد أن صاحب العمل يحتاج لواحد من الحلاقين يكون مختلفاً عنهم، حتى يظل على ولائه له ولا يتواطأ معهم في الاستيلاء على جزء من إيرادات الحلاقة. فالمنظومة التي يضمن بها صاحب العمل المتغيب إيراداته هو أن تقوم على توتر دائم بين الحلاق المسيحي وزملائه المسلمين. فذلك يسمح بتنفيس الحقد ضد صاحب العمل، وتوجيه شحنته ضد شخص جابي الفلوس المسيحي. كما أن عزلة المسيحي عن زملائه تضمن ولاءه لصاحب العمل الذي يحميه من تعصبهم. يبدو أن هذه الصيغة حكمت علاقة السلطة بالملف الطائفي في مراحل تاريخية طويلة، فأحد الصور المذمومة للمسيحي في المخيلة الشعبية هي أنه جامع للضرائب. وهي مهنة وظفتهم فيها إمبراطوريات وسلطات كثيرة تعاقبت على مصر

سلطة المال تلجأ أيضاً لشحن الفقراء ضد المسيحيين باعتبارهم محتكرين لثروة المجتمع. فأحد الصور الشائعة عن المسيحي هي أنه غني، في حين أن هناك العديد من المسيحيين فقراء ومتوسطين. هذه حقيقة ظاهرة للعيان لمن يريد أن يرى. إن ربط المسيحيين بالثروة يلعب دوراً أساسياً في تمويه قضية توزيع وإعادة توزيع الدخل. فمقولة "الأقباط ماسكين اقتصاد البلد" تجعل من المسيحيين العدو الطبقي لفئات لا يُراد لها النظر إلى قضية توزيع الثروة بشكل عملي. والحقيقة أن أحد أهم شروط حل قضية توزيع الدخل هو إخراجها بالكامل من القضية الطائفية

لقد دخلنا في مرحلة مرتفعة في درجة الصراع الطائفي، وهي تعود إلى حد كبير إلى حالة الانكشاف التي تسببت فيها ثورة الاتصالات. فقد أسقطت هذه الثورة إلى الأبد مقولة "الوحدة الوطنية بخير". ف"السر" انكشف، ونحن الآن ندرك ما تقوله الأطراف الطائفية عن بعضها البعض. لا داعي لتصنع الدهشة حينما نسمع دعاية طائفية عفنة، فكلنا ندرك أنها موجودة، والعمل الصالح هنا يكون كشف ومناهضة هذه الدعاية، لا التستر عليها بالتهوين منها. فليتأكد كل مهتم بتقدم وخير مصر ألا يدع خطاباً طائفياً كريهاً يمر في أذنه دون أن يكيل له اللكمات، فهكذا تتغير المجتمعات

أما من شارك في نفخ النار وتعبئة الناس على قضية رسومات الدانمرك العنصرية لأسباب انتهازية، فعليه ألا ينسى في المرات القادمة التي سيوظف فيها المشاعر الدينية أن الموضوع له "أثار جانبية"، يجب ألا ينسى أن يقول للبسطاء أن المسيحيين المصريين ليس لهم شأن ولا سلطان على ما يقترفه الأوروبيين من المسحيين أو غير المسيحيين. فبفضل انهيار المؤسسة التعليمية لم يمر معظم هؤلاء البؤساء على المدارس إلا مرور الكرام، ومن منهم استقر فيها لم يتعلم غالباً أن هناك وطن اسمه مصر، موجود قبل المسيحية وقبل الإسلام، وأن هذا الوطن ملك لكل من يولد على أرضه، وأن بني البشر متساويين بغض النظر على لونهم وجنسهم وديانتهم. المتهم الأول في دم ضحايا الإسكندرية من المسيحيين والمسلمين هو النظام التعليمي المنهار على رؤؤس الأساتذة والطلاب. والمتعلمون والمثقفون هم الموكول لهم تقدم الصفوف للقصاص من القتلة

0 Comments:

Post a Comment

<< Home