الفن ميدان (2 أبريل 2011 – 9 أغسطس 2014) أو جرافيتي أخير على حائط الثورة
يأتي
مصطلح "التطبيع" من كلمة طبع، وطبيعة، ويشير في معناه البسيط، إلى عودة
الأمور إلى "طبيعتها"، والتصرّف وكأن شيء ما قد حدث، لم يحدث. في
الغالب، يتم هذا بشكل مفتعل، يتضمّن الكثير من التكلّف والجهد، لصعوبة نسيان ما
حدث، والتصرّف بشكل طبيعي. هكذا أفهم التطبيع.
لماذا
أجدني أفتتح مقالاً عن الفن ميدان، بمناسبة عيده – أو ذكراه – الرابعة بمصطلح
التطبيع؟
ارتبط
الفن ميدان، بما نحب أن نسميه ثورة 25 يناير 2011.
وفكرة
الفن ميدان هي إقامة فعالية ثقافية فنية مجانية في الميادين المفتوحة، تعتمد على
التطوّع بالنسبة للفرق الفنية والفنانين الذين يقدّمون فقرات بها، والتطوّع بالنسبة
للمنظّمين، وتعتمد على التبرّعات فيما يخص مصروفات تجهيزات اليوم. يحدث هذا في
السبت الأوّل من كل شهر، في ميدان عابدين وميادين وساحات مفتوحة عديدة بمختلف
المحافظات والمدن المصرية. وصل عدد الفعاليات في إحدى المرات إلى 15 احتفالية بنفس
الشهر، على مستوى جمهورية مصر العربية.
على
أن هذا ليس كل شيء. فما الذي يميّز هذه الفعالية عن فعاليات ومهرجانات وزارة
الثقافة المصرية؟ التي يمكن أن تحدث أيضًا في الميادين؟
الفرق
الأساسي هو أن الفن ميدان مساحة استثنائية من الحرية.
كان
الفن ميدان مساحة حرية بمعنى الكلمة، تسمح بالتقاء أطياف مختلفة أو حتى متنافرة،
ولا توجد رقابة على المحتوى ولا يوجد سقف لأي صوت يرغب في التعبير عن نفسه بهذه
المساحة. بالطبع، ككل شيء، شاب هذا الوصف الثوري المثالي الذي ذكرته في الجملة
السابقة بعض الشوائب، من حين لآخر. وتكمن استثنائية هذه الحرية في أنها لساعات
قليلة من أحد الأيام، فهي لا تستمر؛ وأنها عشوائية أو غير منظّمة، على مستوى وجود
جمهور عابر بالصدفة بالإضافة للجمهور الذي يأتي عن قصد؛ وأنه لا استبعاد لأي فئة
تضم نفسها لهذا الفضاء؛ وفي عدم وجود آلية اختيار منهجية من طرف المنظّمين لفرق
برامج المسرح؛ وفي حرية الفرق والعارضين شبه المطلقة في اختيار المنتج الفني الذي
سيقدّمونه.
ميزة
أخرى تخص الفن ميدان، هي تنوّع غير تقليدي وغير مسبوق في مجموعة المنظمين، ينعكس في
ميولهم واهتماماتهم وثقافتهم، والذي تسبب في خلافات بالطبع، كانت تطفو على السطح
من حينٍ لحين. بالاقتراب أكثر من هذه المجموعة، تندهش من قدرتهم على العمل معًا،
وتجاوز أو تناسي المشاكل والخلافات، لقرابة 3 سنوات ونصف، وبالطبع، من قدرتهم على تنظيم
الفن ميدان طيلة هذه الفترة، بدون غطاء مؤسسي ولا هيكل إداري حديدي، ودون تمويل
دائم أو شبه دائم يمكن للإرهاق المادي للفعالية أن يستند إليه. من هنا، يمكننا أن
نرى الفن ميدان ظاهرة ثورية بامتياز. نعم، كان الفن ميدان أحد مكتسبات الثورة،
وانتصارًا رائعًا في إحدى معاركها، وهي معركة الفضاء العام.
تخيّل
أن مجموعة من المواطنين – المدنيين J – يمكنهم أن يضعوا أيديهم على ميدان بالشارع، لمدة يوم
واحد ثابت شهريا، على مدار العام. ما الذي يمكن أن يبنيه هذا من تراكم؟ وفي خلال
هذا اليوم، يقومون بتغيير تضاريس الميدان، فلا تعد تتعرف عليه. فتجد الساحة
الخاوية والمهجورة، إلا في العادة من بعض السيارات التي تستخدمها كجراج، أو بعض
الشباب أو الصبية الذين يستخدمونها كملعب كرة قدم، وقد تحوّلت إلى ساحة ضخمة تموج
بآلاف البشر، وكل أشكال الفنون، والحركة، والأصوات الصاخبة، والمشاجرات أحيانًا.
تحوّلت إلى عالم آخر.
وطيلة
هذه الفترة، كان وضع اليد على هذه الساحة، من خلال آلية بسيطة، هي تقديم طلب تصريح
لمحافظة القاهرة، وهو طلب لم يرفض قط. ما حدث هو رفض آخر.
عفوًا،
نسيتُ ذكر معلومة اتضح لنا فيما بعد أنها شديدة الأهمية.
هذه
الساحة، توجد أمام قصر الرئيس: قصر عابدين. أحد قصور رئيس الجمهورية، الذي لديه ما
يقرب من 30 قصرًا واستراحة في كل أنحاء الجمهورية، أربعة منها بالقاهرة.
اتضح
هذا لأوّل مرة في 1 سبتمبر 2012، عندما تزامن يوم السبت الأوّل من كل شهر
مع زيارة رئيس الجمهورية وقتها، محمد مرسي، لقصر عابدين، حيث حاول الحرس الجمهوري
وكل الجهات الأمنية إلغاء الفعالية. ولكن كان لدينا تصريح من المحافظة منعهم من
فرض ما يرغبون دون إطلاق نيران صديقة. لهذا تمكّنّا بعد أخذٍ وردٍّ من تنظيم اليوم،
بعد تأخير دام لأربع ساعات.
وتجلّت أهمية المعلومة المذكورة أعلاه بشكلٍ أكثر وضوحًا
في 1 أغسطس 2014، عندما رفض الحرس الجمهوري المسيطر على ميدان عابدين لأوّل مرة
التصريح المعتاد الذي قدّمه لهم المنظمون من محافظة القاهرة، وطلب تصريحًا أمنيًا
من قسم الشرطة. مأمور قسم عابدين طلب أن تكون صيغة طلب التصريح هي نموذج طلب
التظاهر الذي يجب ملئه وتقديمه لمن يرغب في التظاهر، وفقا للقانون الجديد، وهو ما
رفضه المنظمون بالطبع. طافت بخاطري وقتها فكرة موقفهم من فعالية "فنية" أو
"سياسية" أمام القصر الجمهوري. ربما يرونه أمرًا لا يليق.
وبعد بيان أصدره المنظمون، ذكروا فيه رفض القوة الأمنية المسئولة
عن تأمين قصر عابدين والتابعة لرئاسة الجمهورية فتح ميدان عابدين، وبعد توسّط
دكتور جابر عصفور وزير الثقافة وقتها لدى وزير الداخلية بعد اتصال المنظمين
بالأوّل، وافقت الداخلية وبالتالي الحرس الجمهوري على تنظيم الفن ميدان بنفس
اليوم. ولكن قرر المنظمون تأجيل الفعالية لأسبوع لضيق الوقت والحصول على الموافقة
في وقت متأخر. وفي أوّل سبتمبر 2014 أتى الرفض الواضح من الأمن لمنح الفن ميدان
التصريح لإقامة فعالية السبت 6 سبتمبر 2014.
بالطبع، هناك دائمًا مبررات يطرحها الأمن، أهمها الحفاظ
علينا واهتمامهم بأمننا الشخصي. وإن تحلّى بعضهم أحيانًا بالصراحة، كما حدث في هذه
المرة، ليخبرنا أنهم يروا في دعوة الفن ميدان في يوليو الماضي للدكتور أحمد حرارة،
أشهر مصابي الثورة، وترْكِه ليصرّح برأيه في النظام الحاكم على المسرح، نوعًا من
نكران الجميل من جانبنا، في ظل أنهم يسمحون لنا باحتلال ساحة "ميدانهم".
رسالة لا ينقصها الوضوح.
قبل
الثورة، كانت العروض الفنية في الأماكن العامة ممنوعة. ولكن يمكن تقديم طلب تصريح من
الأمن بالعرض في الشارع وتقديمه للجهات الأمنية، التي يمكنها الرفض أو حذف ما يلزم
من النص. كان هذا في ظل قانون الطوارئ (أكتوبر 1981-مايو 2012) الذي كان يجرّم التجمّع
بشكل عام، ويفرض القيود على حرية الأشخاص في الاجتماع والانتقال والمرور، الخ. لا
يحتاج المرء للكثير من الذكاء ليدرك أهمية الفضاء العام، وإمكان المسيطر عليه الضغط
للحصول على انتصارات سياسية – كما حدث جزئيًا في 11 فبراير 2011، أو ليفهم خطورة
تراكم الخبرات وقوة التأثير، وربما إمكانية زيادة مساحات الفضاء العام التي يتم
احتلالها. في العيد الأول للفن ميدان، أبريل 2012، قمنا بتنظيم فعالية فنية
احتفالية ضخمة في ميدان عابدين، بهذه المناسبة، بمشاركة مشروع كورال، ومدرسة الدرب
الأحمر للفنون، وإسلام سيبشي وعمرو سعد، ونغم صالح، ورامي عصام، ومسار إجباري، وفرقة
إسكندريلا. كل هؤلاء.
هذه الأسماء تجعلك تفكّر في حجم الجمهور الذي يمكن أن
يسعى خلف هؤلاء الفنانين والفرق، وحجمه الممكن بمرور بالوقت. لا توجد إحصاءات
دقيقة بعدد جمهور الفن ميدان. ولكن العدد التقديري هو أنه في المتوسط كان يحضر الفعالية في ميدان عابدين ما يقرب
من 4000 شخص، وربما مثلها في كل المدن الأخرى مجتمعة، شهريًا. يوحي لك هذا أيضًا بالدور الذي يمكن أن تساهم به هذه الفعالية مثلا في
"الحرب على الإرهاب"، وفي المساهمة في بناء خطاب ثقافي يفكك من الطائفية
أو التطرّف الديني.
ولكن المشكلة الرئيسية في رأيي هي في تلك المعركة التي
أشرتُ لها: السيطرة على الفضاء العام. فمساحة الحرية تسمح بوجود انتقادات للنظام
السياسي الحاكم، أيًا كان. من منا يحتمل النقد؟ خاصةً في زمن الصوت الواحد.
والمشكلة أيضًا في مفهوم الدولة لوظيفة الأمن. ما هي؟ هل
يؤمنون بأن الفضاء العام من حق المواطنين وأنه على الأمن أن يقوم بتأمينهم في حالة
استغلالهم للميادين؟
في أكتوبر 2010 كانت مؤسسة مصريين ضد التمييز الديني تعمل
على تنظيم مهرجان اسمه "مصر لكل المصريين" في حديقة الأزهر، ووافقت
مؤسسة المورد الثقافي على استضافة المهرجان بمسرح الجنينة. وقتها رفض الأمن السماح
بتنظيم الفعالية بعد أن كان قد وافق بالفعل. ولم يوافق أحد على اعطائنا ورقة بالرفض،
ولا ورقة بالتصريح. لماذا يمنع الأمن فعالية عن الوحدة الوطنية؟ كانت أحد
التفسيرات التي بدت لي منطقية حينئذٍ، مع لا منطقيتها الساخرة، هو أن الأمن فعل
هذا لا لشيء، فقط لأنه "مش عايز وجع دماغ".
نقطة أخرى هامة تخص الفن ميدان، هي الفنانون الذين لا
تدعمهم الدولة بأي شكل من خلال تمويلات مباشرة أو غير مباشرة، ولا تفتح لهم
مسارحها، أو إذاعتها، ولا توفر لهم أماكن للبروفات أو أستوديوهات، بل وتطاردهم من
خلال أذرعها النقابية الرسمية، التي تخيّرهم ما بين الانضمام لها أو دفع "غرامة"
متكررة أو السجن، بصلاحيتها في الضبطية القضائية. هؤلاء الفنانين استطاعوا من خلال
الفن ميدان الخروج للشارع والتفاعل مع الجمهور دون وسيط، ودون أبواب مسارح مغلقة
ودون تذاكر، ودون مشاكل إنتاج، ودون رقيب ينبغي موافقته أولا على النص أو الفقرات.
حدث هذا للكثير منهم لأوّل مرة. كانت هذه روح الثورة. لهذا أرى أنه من الضروري توثيق
هذه التجربة الهامة وما حدث بها، وتواريخها، وصورها، وأبطالها، وجنودها المجهولين،
من أجل المرة القادمة.
نعم، أومن بأن هناك مرة قادمة.
وهناك أسئلة هامة، سيكون من المفيد بحث إجاباتها الآن.
مثل، لماذا لم يقم جمهور الفن ميدان العظيم بنفسه بالاستمرار في تنظيم الفعالية،
بعد أن أوقفها الأمن؟ هل كان يجب إشراك أهل المنطقة أكثر في التنظيم لبناء علاقة
أكثر عمقًا؟ هل أصاب المنظمون عندما قبلوا– في النهاية – أثناء المفاوضات مع الأمن
من أجل التصريح، مبدأ تغيير الميدان بمكانٍ آخر؟ ولماذا توقفت مؤخراً حركة مسرح
الشارع التي زاد حضورها في الأماكن العامة بشكل ملحوظ بعد الثورة؟ وهل يمكن إعادة
الفن ميدان دون موافقة الأمن وتصريحه؟ وهل إقامته مثلا بالتعاون مع وزارة الثقافة لتيسير
الحصول على تصريح من الأمن ستخلّ بروحه وطبيعته، فيضحى شيئًا آخر؟ ومتى يمكن أن
تكون المرحلة الثانية من حياة الفن ميدان، هل سترتبط بوجود حركة ثورية على الأرض أو
بولادة وعي مختلف، أو ربما حاجة ما، لدى الجمهور أو الفنانين؟ والأهم، ما الذي
يمكن أن نفعله في المرة القادمة، لكي يصعب على الأمن إيقاف الفعالية بقرار؟
لن يتّفق معي كثيرون في غلق القوس الذي وضعته بالعنوان،
لتبدو التواريخ وكأنها الميلاد والنهاية: (2 أبريل 2011 – 9 أغسطس 2014). فهناك من
يعتقد بإمكانية استمرار "الفن ميدان" مرة أخرى. الآن.
أتمنى هذا. ولكني أعتقد أنها ستكون مرحلة جديدة من عمر
الفن ميدان، وشكل جديد. لأن الفن ميدان لم يُقذف إلى العالم من العدم. أتى من بيئة
إبداعية وخلاقة في الشارع، ومن مدد ثوري ارتفع يومًا ليصل إلى أعلى ما يمكن أن تصل
إليه أعيننا. ثم صار هذا الآن حكاية من حكايات الماضي. أشياء كثيرة ينبغي أن تعود،
حتى يعود هو، كما نعرفه.
في رأيي أن الفن ميدان كان التغيير الوحيد الملموس على
الأرض بعد الثورة، فيما يخص الفن والثقافة. أغلب التغييرات التي حدثت بعد الثورة بوزارة
الثقافة أو المؤسسات الثقافية الحكومية تمت السيطرة عليها، سلميًا أو بشكلٍ نصف
سلمي، وتمت إزالة آثار العدوان. كان آخر هذه الآثار هو الفن ميدان. الجرافيتي
الأخير على حائط الثورة.
كان الفن ميدان أشبه بجرافيتي للثورة. أحد ملامحها الخاصة،
التي يمكنك أن تتعرف عليها بها. لهذا، سيكون من الطبيعي أن يحاول من لا يحب أن
يتذكرها أو أن يتذكرها أحد، يحاول طمس هذه الملامح. مثلما جرت عادة طمس جرافيتي
الثورة على الحوائط، أو استبداله بجرافيتي "آخر". من الطبيعي أن يسعى
الأمن لكي ينُسينا ما حدث، وكل الآثار التي تذكّرنا بما حدث. لكي يعود الأمر
"طبيعيًا" بالنسبة له، ولنا. ربما حتى بتغيير شكل ميدان عابدين الذي
أعتدنا عليه، كما يحدث الآن. لن تتعرف عليه إذا زرته اليوم، من أعمال الحفر والهدم
غير المفهومة التي تتم به. ميدان سعد زغلول بالإسكندرية أيضًا، والذي شهد تنظيم
فعاليات الفن ميدان لفترةـ تمت إحاطته بالأسوار، وكأنها خطة ما لتغيير شخصيته
كفضاء مفتوح. وعلى الجانب الآخر، سيجانبنا الصواب إذا تصرّفنا وكأن شيء لم يحدث
للثورة. إذا تصرفّنا وكأن جرافيتي الثورة لم يزل بألوانه الزاهية، منتصرًا على
الجدران. على جرافيتي الثورة أن يعترف، أنه لن يعتلي الحوائط اليوم، إلا باهتًا.
على أن الصورة ليست بهذه القتامة، التي تبدو عليه.
صحيح أننا لم نعد نغني. ولكنّا لم ننسى الغناء. ولم ننسى
أيضًا كم أحببنا تلك اللحظات التي جمعتنا بالسعادة على غير موعد، بينما نحن نغني.
لهذا، وبرغم كل شيء، يمكن رؤية بداية ما، في هذه
النهاية.
قبل 25 يناير 2011، لم يكن من المقبول أن نحتفي بمثل هذه
الأغنية:
"ولما الثورة قامت نزلنا في كل البلاد
موتنا على الحرية وسقوط رموز الفساد
ما سكتناش ما هديناش ما لسا النظام موجود
داخلية الكلاب والظلم في كل مكان موجود
أقتل في الثورة كمان
كلمة حر ليك جنان
مهما يزيد بطش السجان
قدام صوتي يكون جبان"
(من أغنية "حكايتنا" – أولتراس أهلاوي)
أيمن حلمي
5 أبريل 2015
0 Comments:
Post a Comment
<< Home