سيزيف مصري

في الأسطورة الأغريقية، سيزيف في الجحيم وعقابه أن يرفع صخرة من القاع حتي قمة جبل شاهق، وقبل أن يصل بقليل تسقط منه لأسفل، فيعود ليبدأ من جديد، بلا نهاية. ما أشبه ذلك بنا، أولادك يا بلدي

Saturday, April 29, 2006

ثورة الدولة ضد النظام


سامر سليمان
لم يعد لأحد حصانة من عنف أجهزة الأمن. ما حدث من ضرب وسحل للقضاة ولأعضاء مجلس الشعب الأسبوع الماضي يشهد على ذلك. فالنصوص الدستورية التي تتحدث عن سلطات ثلاث (تشريعية، قضائية، تنفيذية) أصبحت نصوصاً متحفية، تتحدث عن بلد أخر غير مصر. بالله عليكم، هل رأيتم من قبل "سلطة" يتم سب وضرب بل وسحل ممثليها في الشارع؟ ما الجديد في هذا؟ نحن نعرف منذ فترة طويلة أن هناك سلطة واحدة في مصر، سلطة الأمن. ف"السلطة" التشريعية هي في الحقيقة "سلطة" تنفيذية"، تمرر ما يُطلب منها من قوانين، ونحن نعرف أيضاً أن تركيبة البرلمان التي تأتي بها "الانتخابات" لا تخرج عن حسابات الأمن. نحن نعرف كيف تتدخل أجهزة الأمن بشكل مباشر وغير مباشر في عمل القضاء
نحن نعرف كل ذلك. ما الجديد إذن؟ الجديد أن الناس لن تستطيع الهروب من الحقيقة، بعد رأى بعضنا اللقطات المصورة التي يُهان فيها قضاة مصر، وبعد أن سمع من لم يرى. لم يعد هناك مفر من الاعتراف بالحقيقة: ليس من سلطة في مصر إلا سلطة الأمن. والموضوع قديم، منذ أن ضُرب الفقيه الدستوري عبد الرزاق السنهوري بالأحذية في الخمسينات، ومنذ أن قام النظام بعدة مذابح لعزل كل صوت يقاوم تسخير القضاء لخدمة المجموعة الحاكمة. لكن الجديد أن درجة عنف النظام ضد القضاة قد زادت بشكل كيفي، في الوقت الذي تتوجه أنظار وآمال الناس التواقين للخلاص إلى القضاة. فبعد أكثر من نصف قرن من القتل المنظم للسياسة لم يعد هناك تيارات سياسية حقيقية، والتنظيم السياسي الوحيد الحقيقي، أي الإخوان، لم يحسم أمره بعد، هل هو جزء من معادلة استقرار النظام، أم هو رصيد لحركة التغيير؟ هل يلعب دور الفزاعة التي تجبر الناقمين على الأوضاع بقبول الأمر الواقع خوفاً من وضع أسوأ، أم يكف عن لعب هذا الدور بأن يغير ما بنفسه تجاه الفئات التي يٌستخدم لإخافتها؟ في هذا الفراغ السياسي تتعلق أمال الديمقراطية بالقضاة

لقد وضع التاريخ القضاة في فخ، فقد ألقى على كاهلهم مهمة يصعب التنصل منها. المعركة التي تخوضها المؤسسة القضائية الآن ضد النظام هي بمثابة ثورة الدولة، أو ما تبقى منها، ضد نظام سخر المؤسسات العامة، خاصة الأمنية منها، لخدمته، الأمر الذي أدى إما لانهيارها أو لقيامها بوظائف غير وظائفها الأصلية. فلننظر إلى حالة الأمن وإلى فشله المتواصل في حفظ أمن المواطن، فلننظر إلى المستشفيات العامة، فلننظر إلى المدارس وإلى الطرق والمرور والعدالة. الدولة المصرية تتحلل، تاركة الساحة لمجموعات وعصابات تدير الأمور. مؤسسة واحدة فقط تحافظ على حد أدنى من التماسك برغم كل ما أصابها، مؤسسة واحدة في الدولة يدخل إليها المواطن الفرد الضعيف عاقداً الأمل أن تنصفه. صحيح أن الفساد قد ضرب أيضاً المؤسسة القضائية، وأن الأمن لا ينفذ أحكام القضاء في الكثير من الأحيان، لكن مقارنة المؤسسة القضائية ببقية مؤسسات الدولة يجعل منها بصيص الضوء في هذا الظلام الدامس. بهذا المعنى من يريد إنقاذ الدولة المصرية لابد وأن يؤازر القضاة. هل سمعتهم عن انتفاضة مدرسين مثلاً ضد النظام؟ بالطبع لا. فنظام يوليو تعامل مع هؤلاء بشكل أكثر قسوة. هل ننسى أن هذا النظام أرسل لهم جنرالاً، كمال الدين حسين، لكي يصبح نقيباً للمعلمين وزيراً للتعليم. أين المعلمين؟ للأسف، لم يبق إلا القضاة

إن كلام رؤوس النظام عن "القضاء الشامخ" لم يكن مجرد دعاية فجة. فالنظام كان يحتاج فعلاًً لمؤسسة قضائية تتمتع بدرجة من الاستقلالية تفوق ما لمؤسسات الدولة الأخرى، مؤسسة قادرة في بعض الأحيان على الحد من تجاوزات النظام، سواء بتبرئة معارضيه من تهم مزورة، أو بالحكم لصالح مرشحين في البرلمان تم إسقاطهم بالتزوير، أو بالحكم بعدم دستورية قوانين جائرة مثل قانون الضريبة على المصريين العاملين بالخارج. بهذا تم "تصريف" الصراع الاجتماعي بعيداً عن المجال السياسي لكي يستقر في ساحات القضاء، وبهذا كان "النضال القانوني" وليس النضال السياسي هو عنوان عهد مبارك. وهو الأمر الذي أرهق القضاة، وحملهم ما لا طاقة لهم به، من أول الفصل في قضايا سياسية بامتياز كالصراع حول سياسة الخصخصة، مروراً بالفصل في نزاع حول شرائط كاسيت وأفلام، ووصولاً إلى القصاص من شارون بسبب جرائمه ضد الشعب الفلسطيني. لقد حدث ما يمكن أن نسميه "قضينة" السياسية في مصر. المشكلة الآن أن قدرة النظام على احترام أي درجة من استقلالية القضاء بات صعباً، سواء بسبب الأزمة السياسية التي دخل فيها النظام، أو بسبب طول وشدة اعتماده على أجهزة الأمن، الأمر الذي أدى بها إلى حالة من الانفلات. هكذا فإن المعركة التي يخوضها النظام مع القضاة هي معركة خاسرة، أيا كانت النتيجة. فحتى لو نجح، لا قدر الله، في كسر شوكة القضاة وإبقائهم تحت السيطرة فإن بذلك يكون قد خسر آلية أساسية لتصريف الصراعات الاجتماعية والسياسية. وفي كل الأحوال، وفي ضوء زيادة الصراع الاجتماعي والسياسي، لم يعد القضاء بقادر على التلطيف منه واحتواءه في ساحات المحاكم. إذا فاز النظام، سندخل في مرحلة أعلى من الانفلات، يُعد الانفلات الحالي بالمقارنة بها مجرد مزاح. إنه الجحيم للكل، للنظام وللمجتمع

وعلى هذا فإن المدخل الوحيد للخروج السلمي من الأزمة السياسية التي تعاني منها البلاد، المدخل الوحيد لإنقاذ الدولة المصرية هو الالتفاف حول المؤسسة الوحيدة التي لازالت تقاوم إخضاعها بالكامل للنظام. فلتعذرونا أيها القضاة الشرفاء، ليس لدينا من خيار سوى المراهنة عليكم والالتفاف حولكم. فالتاريخ له منطق يتجاوزنا، وهو قد ألقى على أكتافكم بدور يصعب الفكاك منه. أنتم لا تدافعون عن استقلال السلطة القضائية في مواجهة السلطة التنفيذية. أنتم تنقذون الدولة المصرية كلها من التحلل، بما فيها مؤسسات الدولة الأمنية التي تُستخدم في التنكيل بكم. قلوبنا وعقولنا وأرواحنا معكم، فلا تسلموا

1 Comments:

  • At 7:46 AM, Blogger (abu al-alaa) أبو العلاء said…

    نعم القضاء آخر ما تبقى من مؤسسات الدولة المدنية. السؤال أين القوات المسلحة من كل هذا؟

    ربنا يستر!!!

     

Post a Comment

<< Home