فيروز تصرخ مع المعتصمين: يا سيد الولاية... فليت وتركتنا
بيار أبي صعب
جاءت فيروز الى الموعد... امتلأت قاعة الـ “بيال”. وحدثت الأعجوبة. في الخارج ما زال قلب بيروت يرجّع صدى الهتافات. المعتصمون يواصلون اعتصامهم، والجميع يحاول استيعاب ما جرى في هذا النهار التاريخي. وحتى اللحظات الأخيرة، لم يصدق الجمهور أن فيروز ستقف على خشبة المسرح، فإذا بها تصير قرنفل، تتقمّص شخصية أنتيغونا الرحبانية التي تمرّدت على الحاكم (أنطوان كرباج) الجشع، المستخف بعباده، المستأثر بالسلطة... الذي ينام طوال الشهر، ولا يصحو سوى مرة لختم المعاملات.
جاءت فيروز الى الموعد... امتلأت قاعة الـ “بيال”. وحدثت الأعجوبة. في الخارج ما زال قلب بيروت يرجّع صدى الهتافات. المعتصمون يواصلون اعتصامهم، والجميع يحاول استيعاب ما جرى في هذا النهار التاريخي. وحتى اللحظات الأخيرة، لم يصدق الجمهور أن فيروز ستقف على خشبة المسرح، فإذا بها تصير قرنفل، تتقمّص شخصية أنتيغونا الرحبانية التي تمرّدت على الحاكم (أنطوان كرباج) الجشع، المستخف بعباده، المستأثر بالسلطة... الذي ينام طوال الشهر، ولا يصحو سوى مرة لختم المعاملات.
وإذا كان المسرح الرحباني حافلاً بالأعاجيب، كما يلاحظ فواز طرابلسي، فإن الأعجوبة الأولى أن أوبريت“صحّ النوم” التي أعاد زياد الرحباني إحياءها، نافضاً عنها غبار الزمن، تمكنت أخيراً من لقاء جمهورها. لكن الأعجوبة الثانية أن المسرحية التي تعود الى عام 1970 بدت راهنة بشكل مدهش! تركة عاصي ومنصور التي تبدو ساذجة وفولكلورية، لا يعرف المرء متى تنفجر بين يديه... وها هي تأتي صدىً مدهشاً للراهن السياسي. فيروز التي طالما جمعت اللبنانيين في عرزالها المسحور، شاءت لها المصادفات أن تكون لسان حالهم مساء أمس. في شخصية قرنفل وفستانها “البرتقالي” (!)، ومظلتها البرتقالية التي ترمز إلى سقف بيتها الذي تهدّم ولا تستطيع بناءه، رفعت صوتها الذي “يجرّح أذني الوالي”، كأنها تهتف مع المعتصمين على مقربة منا: “يا سيد الولاية... فلّيت وتركتنا”.
المسرحية التي تتضمّن بعض أجمل الألحان (والقصائد) الرحبانية، تحكي عن الفساد، عن انقطاع الحاكم عن الناس، وسوء استعماله للسلطة، واحتقاره لحرية التعبير. لكن قرنفل تسرق الختم السحري وتعيد الى الأهالي شيئاً من حقوقهم المسلوبة...
صفق الجمهور طويلاً لكل التعليقات السياسية التي بدت ضد الحكومة الحالية. لكنّه صفق أيضاً (رغم الـ “بلاي باك”) لعمل فني حافظ مع السنوات على كل نضارته. عمل يختزن كل عبقرية المدرسة الرحبانية، وكل كليشيهاتها وسذاجتها أيضاً.
مسرحية “صحّ النوم” رحبانية بامتياز، و«أوبريت» بامتياز. في المرّة الأولى عطلها رحيل عبد الناصر، ثم حال العدوان الإسرائيلي الأخير دون تقديمها في بعلبك... إلى أن طلعت علينا فيروز من بين المعتصمين في قلب بيروت
الجمهور انتظر هذا الموعد طويلاً... حتى خاله لن يأتي أبداً. مسرحية “صحّ النوم” على خشبة الـ“بيال” إذاً. في هذه الظروف؟ وما همّ! القرية اللبنانية خارج الزمن. وفيروز تحلّق ــ بهالتها الملائكيّة ــ فوق صخب التاريخ. الواقع اللبناني ينبعث، بسحر ساحر، على الخشبة، من خلال تراث عاصي ومنصور. إنه فن الرحابنة، كلّه على المسرح.
في إحدى مسرحياته الساخرة، “شي فاشل”، أراد زياد الرحباني أن يستعيد تلك المدرسة الرحبانية التي صاغت مزاجاً، وقولبت وطناً، فلم يجد نموذجاً أفضل من “صحّ النوم”! المدرسة الرحبانية، آخر أوهام العصر الذهبي للبنان.
وزياد ــ رغماً عنه ــ وريث تلك المدرسة: إنّه مقوض أساساتها ومكمّلها في آن، بعدما قلب المعادلة على أصحابها (العلاقة بالواقع تحديداً)! وهذه إحدى مفارقات تجربة زياد التي تصنع فرادتها وديناميتها، ولا بدّ من أن ينكب عليها النقاد والباحثون والمؤرخون طويلاً، إذ سيجدون مادة غزيرة وغنية تبدأ بالإبداع الموسيقي والمسرحي، وتلامس حدود الشخصي والحميم، وتصبّ في السياسي أولاً وأخيراً. وها هو “الابن الرهيب” للمؤسسة الرحبانيّة يبعث تلك الأوبريت، مانحاً فيروز فرصة ذهبية للعودة إلى خشبة المسرح.
تأتي “صح النوم” (1970) بعد المسرحيات التاريخية مثل “أيام فخر الدين” (1966)، والانتقادية السياسية مثل “الشخص” (1968)، والوطنية مثل “جبال الصوان” (1969). لكنّها لا تنجو من إغراءات الإسقاط السياسي رغم خلوها من زخم المشاعر الوطنية والقومية. وإذا كانت “جبال الصوان” “حجر الأساس في تناول المسرح الرحباني للصراعات اللبنانية، خلال مرحلة تحتشد فيها الإشارات والدعوات الى التغيير”، كما يعتير فوّاز طرابلسي في كتابه المرجعي “فيروز والرحابنة ــ مسرح الغريب والكنز والأعجوبة” (دار الريّس ــ 2006)، فإن “صح النوم”، المبنيّة على حكاية شعبية (الخاتم والبئر)، تتميّز بنفس انتقادي للبيروقراطية والفساد الإداري... يدعو الأخوان رحباني من خلالها إلى... ضرورة المشاركة الشعبية والإصلاح الإداري! ما هذا السحر الذي يجعلها اليوم ــ الآن وهنا ــ راهنة بهذه الحدّة السياسية، غير المقصودة على الأرجح؟ هكذا هو التراث الرحباني، نخاله صالحاً لمتاحف الفولكلور، فإذا به مادة خطيرة قد تنفجر بين أيدينا في أي لحظة! وهذا ما حدث ليلة أمس في “بيال”.
تأتي “صح النوم” (1970) بعد المسرحيات التاريخية مثل “أيام فخر الدين” (1966)، والانتقادية السياسية مثل “الشخص” (1968)، والوطنية مثل “جبال الصوان” (1969). لكنّها لا تنجو من إغراءات الإسقاط السياسي رغم خلوها من زخم المشاعر الوطنية والقومية. وإذا كانت “جبال الصوان” “حجر الأساس في تناول المسرح الرحباني للصراعات اللبنانية، خلال مرحلة تحتشد فيها الإشارات والدعوات الى التغيير”، كما يعتير فوّاز طرابلسي في كتابه المرجعي “فيروز والرحابنة ــ مسرح الغريب والكنز والأعجوبة” (دار الريّس ــ 2006)، فإن “صح النوم”، المبنيّة على حكاية شعبية (الخاتم والبئر)، تتميّز بنفس انتقادي للبيروقراطية والفساد الإداري... يدعو الأخوان رحباني من خلالها إلى... ضرورة المشاركة الشعبية والإصلاح الإداري! ما هذا السحر الذي يجعلها اليوم ــ الآن وهنا ــ راهنة بهذه الحدّة السياسية، غير المقصودة على الأرجح؟ هكذا هو التراث الرحباني، نخاله صالحاً لمتاحف الفولكلور، فإذا به مادة خطيرة قد تنفجر بين أيدينا في أي لحظة! وهذا ما حدث ليلة أمس في “بيال”.
الوالي ينام طوال الشهر، ولا يصحو سوى يوم واحد للاهتمام برعاياه، موقعاً فقط على ثلاث من معاملات الأهالي. وقرنقل (فيروز) تنتظر منذ 6 أشهر للتوقيع على معاملة بناء سقف لبيتها “البلا سقف”! ماذا تراها تفعل؟ تسرق ختم الوالي، وتروح تفش كربة “المواطنين” الناطرين. لكن “قرنفل العفريتة” ترمي الختم في البئر، وتخلق ما قد نسميه اليوم “أزمة سياسية”! لكنّ الوالي يعفو عنها بقلبه الكبير، بعد أن تغوص في عتمة البئر وتنتشله. في بيروت، الآن وهنا، ترن كلمات الرحابنة على قاب قوسين من عشرات آلاف المعتصمين: “يا مولانا الوالي/ شفت الأهالي ناطرين/ واقفين، ناطرين/ حاملين بيوتن بإيديهم/ جرّحني صريخ ولادن/ وشفتك نايم يا مولانا...”.
“صح النوم” بحواراتها الملحّنة الشديدة الغزارة، هي المسرحية الغنائية الرحبانية بامتياز. الأغنيات امتداد للحوار، ليست تزيينية بل منخرطة في السياق الدرامي. أوبريت تقوم على مونولوجات مغنّاة... جاء زياد الرحباني ونفض غبار الماضي عن تسجيلاتها الموسيقية القديمة. لم يتطاول على توزيعها الأصلي، هو الذي كاد يعيد كتابة تاريخ فيروز بتوزيعاته، بل اكتفى بإعادة تسجيل الموسيقى والحوارات الغنائية، وعدّل إيقاع بعض الحوارات. أما بصمته الخاصة فتتمثل في إعادة قراءة البناء الموسيقي الأصلي وتسليط الضوء على مواطن القوة فيه.
وبما أن حجر الأساس في «صح النوم» هو الغناء الفردي والجماعي، فقد كان من الطبيعي أن يعطي زياد للكورس دوراً مستقلاً، إلى جانب الممثلين والراقصين. بل إنه وظف الكورس في كسر الجدار الرابع مع الجمهور. ولجأ إلى الخيار “البريختي” (التغريبي) نفسه، من خلال ادخال عنصر العزف الحيّ، إذ اخترع 3 عازفات بالزي العسكري (فلوت وطبل وصنوج).
يبقى أن هذه الاستعادة تكتسي بعداً مدهشاً اليوم. من كان يظن أنّه سيضجر، أو يستسلم لبراثن الحنين لدى مشاهدة “صحّ النوم 2006”، سيفاجأ باندماجه في اللعبة... كأن التاريخ اللبناني توقف عند السبعينيات. يرى فواز طرابلسي في تلك المسرحية تحذيراً “أطلقه الرحابنة من تمادي الحكم في إغفال قضايا الناس، وضدّ استفحال الفساد الإداري”. لكن المقارنة مع الواقع تقف عند هذا الحدّ! ففي العالم الرحباني، حتى بعد أن مرت عليه أصابع زياد، لا بد من أن تكون النهاية سعيدة. تتصالح المعارضة (قرنفل) مع الحاكم، وترفع الظلم، وتترك للمواطنين أن يشاركوا في الحكم أخيراً. أما الواقع، فحكاية أخرى
0 Comments:
Post a Comment
<< Home