شيطان سوء الفهم الحضاري و لعبة البطولة في السيرة الهلالية
لياسر علام:0
ما أحوج البشرية في هذه اللحظة المحتقنة، إلي محاولة التفاهم الإيجابي الخلاق. فبالرغم من كل المحاولات الدءوبة التي تقوم بها جماعات، وأفراد، ومؤسسات، إلا أنه ما زال الغالب المزهو بانتصاراته هو شيطان أسمه (سوء الفهم). مازال الكثيرين يبدو لهم أن ما يقومون به من جهود ليس إلا "آذان في مالطة"، -على حد التعبير العامي البليغ-. والتحفز والتحامل مازالا مجدافا المتعصبين، -من أولئك، وهؤلاء على السواء- وصدقني لن تسمع سوى إلا ما يشير إلى أن (الآخر) هو وهو فحسب السبب. الأمر أعقد كثيراً من أن تحله مقالة، أو دراسة، أو كتاب، أو مكتبة، أو حتى مؤسسة ثقافية. غير أن الحكمة الشعبية -خفيفة الظل- تلوح لنا بمقولتها المعبرة الخالدة "نواة تسند الزير" فلا تدع للاستكانة أو السلبية إلينا من سبيل. حسنا لتكن نواتنا في رجم شيطان سوء الفهم مناقشة خلجة من خلجات ما يعرف بالــSTEREOTYPE:
والذي ترجمته النموذج الشائع. ولكن دعنا أولاً نعرف ما هو النموذج الشائع.
النموذج الشائع هو رأي متكرر بين مجموعة من البشر لفترة من الزمن، وبالرغم من أنه انطباعي أو تقريبي وعام لدرجة كبيرة، إلا أن شيوعه يعطيه بعد فترة من الزمن درجة من الحصانة، تجعل المرء يغفل عن كون هذا الرأي، غير قائم؛ لا على أسس علمية مثلاً أو حتى على حقائق تاريخية. ويتحول هذا الرأي في ذهن الفرد إلي حقيقة، بالرغم من ابتعاده لحد كبير عن الحقيقة. و مثال ذلك النموذج الشائع الذي تستدعيه مخيلتك عندما أقول "سائحة أمريكية شابة" على الفور ستعتبرها -وبدون مناقشة- فتاة غير محافظة، غير مسئولة، جاءت لتسلية فارغة. بالرغم من أن الحقيقة قد تكون غير ذلك تماماً. فقد تكون باحثة، عنت بدراسة طراز تاريخي معين متوفر في بلادنا، وفضلت أن تقضي،حتى فترة راحتها، فيما يمس تخصصها. أعلم أن البعض سيسرع في الرد بقوله: لكن النموذج الذي تفترضه نادر، وحين تسأله: ما الذي دفعك لهذا الظن!؟
النموذج الشائع هو رأي متكرر بين مجموعة من البشر لفترة من الزمن، وبالرغم من أنه انطباعي أو تقريبي وعام لدرجة كبيرة، إلا أن شيوعه يعطيه بعد فترة من الزمن درجة من الحصانة، تجعل المرء يغفل عن كون هذا الرأي، غير قائم؛ لا على أسس علمية مثلاً أو حتى على حقائق تاريخية. ويتحول هذا الرأي في ذهن الفرد إلي حقيقة، بالرغم من ابتعاده لحد كبير عن الحقيقة. و مثال ذلك النموذج الشائع الذي تستدعيه مخيلتك عندما أقول "سائحة أمريكية شابة" على الفور ستعتبرها -وبدون مناقشة- فتاة غير محافظة، غير مسئولة، جاءت لتسلية فارغة. بالرغم من أن الحقيقة قد تكون غير ذلك تماماً. فقد تكون باحثة، عنت بدراسة طراز تاريخي معين متوفر في بلادنا، وفضلت أن تقضي،حتى فترة راحتها، فيما يمس تخصصها. أعلم أن البعض سيسرع في الرد بقوله: لكن النموذج الذي تفترضه نادر، وحين تسأله: ما الذي دفعك لهذا الظن!؟
لن يجد مرجعية دقيقة لهذا التصور، غير رأي النموذج الشائع. والحقيقة أنه من الإنصاف أن نقول: هذا ليس داء تختص به جماعة دون غيرها، بل دعنا نؤكد أنه، مرض بشري؛ يتحول لدى جماعات إلي وباء، ولدى البعض الآخر إلي عرض يمكن التغلب عليه، على أحسن تقدير.
والحقيقة أن أبناء المجتمع الواحد يصنعون نماذج تقريبية لبعضهم البعض، و تكون أحيانا مسار تندر؛ مثل الطفيليين في الأردن، والحماصنة "أهالي حمص" في سوريا، و المنوفيين أو أبناء الصعيد في مصر، والاسكتلنديون في بريطانيا... إلخ. والأمثلة أكثر من أن تحصى. واحدة من ملامح النموذج الشائع للعربي المسلم في العالم الغربي. نجد صفة واحدة لمعنى متعدد أنه؛ يضيق بالخلاف/ أحادي/ متعصب/ غير متسامح/ لا يستوعب الأخر، وهذا الجانب فقط من النموذج الشائع، سنحاول مناقشته -بأعصاب هادئة- من خلال استحضار عمل فني شعبي عظيم هو السيرة الهلالية، وإلي أي مدى يمكن أن يعكس بطلها هذا الملمح أو نقيضه.
ولنبدأ أولاً بالسؤال المنتظر من هو بطل أبطال السيرة الهلالية؟! من تقاليد الفن الشعبي أن تحمل السيرة أسم البطل، مثل أن نقول سيرة عنترة بن شداد، سيرة الأمير سيف بن ذي يزن، أو سيرة الظاهر بيبرس، أو سيرة ذات الهمة. لكننا لا نجد هذا الأمر في السيرة الهلالية على وجه التحديد، ففي شرق الوطن العربي حين ستسأل من هو بطل السيرة، في الغالب ما تكون الإجابة (أبو زيد الهلالي سلامة). غير أنك ما أن تعبر ليبيا، متجه غرباً، حتى تكون الإجابة على نفس السؤال بأن البطل ليس سوى(الزناتي خليفة) وهل في ذلك شك. أما إذا اتجهت جنوباً فقد تطالعك إجابة مختلفة تماماً،على سؤالك المتكرر لتكون (دياب بن غانم).
هنا هل ستهز رأسك يميناً ويساراً، مكتفياً بالتعجب من هذا الأمر!؟، ومرجعاً الأمر لاختلاف الأذواق! نعم قد تفعل، غير أن مناقشة منطقية مع صاحب الإجابة، ستكشف لك حقائق أقل ما توصف به أنها مذهلة.
السيرة الهلالية لمن لا يعرفها، هي عمل جليل وعظيم يصعب دائماً وأبداً الإحاطة به، ويكفي أن نعلم أنه يزيد عن المليون بيت شعري في بعض الروايات. وهو عمل تتجلى فيه الحكمة الشعبية العربية في تجلي درامي من أجمل وأكمل ما عرفته البشرية من ملاحم. ولكن لننجو من الافتتان بعظمة هذه الملحمة –ولو إلي حين-، نعرض لموضوعها العام في سطور. إنها التجربة الحياتية للحلف الهلالي المكون من قبائل نجد المقاتلة والمدافعة عن قيم الأمة وشرفها، و كعادة الملاحم، هي تستنهض الأمم بذكر أمجادها العسكرية، وبطولات القادة التي أنجبتهم أرضها في السلم والحرب. وتعيد السيرة الشعبية –كما هو معتاد- تاريخ الأمة وتفسره بطريقة فنية حسباً لمعتقدات البسطاء والمحكومين لا الحكام، إنها حكاية الشعب، كما يفهما الشعب، أو كما يحب أن يفهما.
هلال الجد البعيد الذي تنتسب له القبيلة المحاربة قبيلة بني هلال، هو أحد رجال الإسلام الذين ابلوا أحسن البلاء في الدفاع عن الرسول في (غزوة تبوك) –هذا ما تذكره السيرة- فاستحق بذلك التمجيد، ونال نسله فخر البطولة وشرف الفروسية. وفي اللحظة التي تبدأ فيها السيرة، يكون فارس بني هلال المغوار هو رزق بن نايل بن جرامون بن عامر بن هلال، حامي حمي الحلف الهلالي، وهي القبائل المتحالفة مع بني هلال في السراء والضراء، وعبر ملابسات معينة يتزوج رزق من خضرة الشريفة، ابنة الأمير قرضه الشريف حامي الحرمين وحامل مفتاح الروضة الشريفة، و ينجب منها "أبو زيد الهلالي سلامة"، ليكون بذلك جامعاً لطرفي المجد، فهو بذلك شريف من نسل النبي يأخذ ويرث من ناحية أمه الحكمة والعلم، ومن ناحية أبيه مجد البطولة وعنفوان الفروسية، و لا أريد أن أغالي فأقول أن المزاج الشعبي قد طاب له عمل مصالحة فنية حكيمة بين منطقي السنة والشيعة في الحكم، فصنع هذه الجديلة. حسنا ها أنا ذا قد قلتها بالفعل.
وأهم أحداث السيرة وملحمتها الأساسية ما يعرف بالريادة و التغريبة، ونحن نعني هنا بالشق الثاني الذي هو التغريبة لأنه هو ما صنع الاختلاف الكبير في الروايات بل وفي طريقة النظر لهذا البطل من ذاك. التغريبة هي موجة هجرة كبيرة قامت بها قبائل من نجد مخترقة مصر عابرة إلي المغرب العربي، بعد ما مر بهذه الأرض من مجاعة أهلكت الجميع، و استوطنت تلك القبائل أرض تونس، بعد أن زحفت إليها تسوق رجالها ونساءها وحالها ومالها كما يقال، أما تلك الحادثة فلها أصل تاريخي كما هو شائع في الملاحم، وأما تفسير هذا السلوك وتبريره فهذه مهمة الفنان الشعبي، الذي يمنطق هذا الفعل بمنطق غالباً ما يخالف ما حدث تاريخياً، لصالح وجهة نظره الفنية والإنسانية. على أي حال الثابت تاريخياً، أن قبائل؛ هلال، وسليم، ودريد، والأثبج، ورياح، قد هاجرت من نجد من منتصف القرن الخامس الهجري، وأستمر موجات الزحف لما يقرب عن قرن، وقد استطاع عبد المؤمن بن علي إمام الموحدين التصدي لها بعد أن وطنت بعضها واستعان ببعضها على بعض، وأصل الأمر أن هذا الزحف قد تم بتدبير الوزير اليازوري وزير الخليفة الفاطمي في مصر، والذي منح (المعز بن باديس) حاكم أفريقيه عام 435 جرياً لقب (شرف الدولة)، وبدلاً من أن ينحاز المعز بعد هذه المنحة للخليفة الفاطمي، انحاز لعامة شعبه الذين قاموا بثورة ضد أصحاب المذهب الشيعي الاسماعيلي، وبالفعل أمام الثورة الشعبية ناد المعز بإتباع مذهب الإمام مالك وخطب في المساجد للخليفة العباسي(القائم بأمر الله)، وأعترف له الأخير باستقلال المغرب تحت أمرته، جن جنون الخليفة الفاطمي في مصر، من ما يحتسب نصر للخليفة السني في بغداد، فأشار عليه الوزير اليازوري بتحريض قبائل نجد بالزحف على تونس، فكان ما كان. وتصدى لهذا الزحف المعز بجيش مؤلف من قبيلتي زناتة وصنهاجة ويقال أنه هروب زناته بعد بطولاته هو ما حسم الأمر للغازين.
لكن السيرة لا تذكر شيئاً عن الشيعي والسني والخليفة الفاطمي والعباسي، بل تقدم مبرر أخلاقي لهذا الغزو وإن نوهت ولو بشكل متواري على ما حدث، في السيرة أن زناته أو الزناتي خليفة وحلفاءه قد طمعوا في أرض يحكمها الأمير عزيز الدين بن الملك جبر القريشي، فاستولوا عليها بالخداع و قتلوا أشراف في المسجد، فاستعان الشريف القريشي فاستجار الشريف القريشي بأبناء عمومته من قبائل نجد، ليردوا الحق السليب لأصحابه الأشراف، والمتأمل سيجد ظلال التاريخ والخلاف المذهبي من بعيد، فمن الممكن اعتبار الشريف بالنسب يكني به عن الخلافة الشيعية الذي هذا منطقها، على أي حال السيرة لها منطقها. ويفسر ذلك تعدد رواياتها و اعتبار من هو بطلها..
فالرواية في الشرق كما أسلفنا بطلها أبو زيد الهلالي سلامة، الفارس الأسود الحسيب النسيب، الذي تتهم أمه في شرفها لسواده وهي التي دعت الله أن يهبها غلام يماثل الطائر الأسود القوي الذي رأته و اختارته،
" يا أسمر .. والرب حلاك
في جسمي البلا كلموني
لو أسمر قوي برضه عاوزاك
وحتى أن لاموني يلوموني"
"تمنت وطلبت من الله
يعطيها غلام صالح
كي يعمر لرزق دياراه
ويقضي جميع المصالح"
"ويكون قلبه للعلم مشروح
يصلى على البدر (طه)
كان يوم دي باب العرش مفتوح
استجاب الإله دعاها"
وتستجيب لها السماء فتوهب ذلك الذي ببطولته وبالبرهان يتسيد قومه بعد ذلك، وهو الغوث الذي يضرعون إليه في الملمات، وفي أعوام القحط، وحين يهان أشراف المغرب، يقوم بمغامراته الاستكشافية ثم يقود قومه في التغريبة ويعيد الحكم الشرعي لأصحابه، هو العالم المقاتل، صاحب السيف القلم حسب التعبير الأدبي، أو صاحب الحال والمقال حسب التعبير الصوفي.
لكن في رواية المغرب ستجد أن بطل السيرة هو زناته، لاحظ فكرة التأريخ من وجهة نظر الفن، وبطل زناته هو (الزناتي خليفة) هذا البطل، الذي وقف يدافع عن أرضه تونس وبلاده، ضد الغزاة الغاصبين الهاجمين من الشرق، والذين جاءوا ليستولوا على الأخضر واليابس بقيادة الوحش الأسود أبو زيد الهلالي، والزناتي يظهر أقوى وأروع آيات البطولة، ثم المقاومة بعد الاحتلال، وهو نموذج البطل الشعبي المناضل في السيرة، وهكذا يختلف منظور السيرة حسب زاوية النظر.
وكما هو معلوم الروايتين لا تقلل أبداً من قدر بطولة البطل الآخر، مع الاحتفاظ بكونه العدو. بل أن الرواية المغربية تعطي أبو زيد من الأوصاف والمقدرة والبطولة ما تجعله لا يهزم البشر فحسب بل والجان كذلك، والرواية الشرقية تعطي الزناتي من أبيات المدح في مآثره وشجاعته وجسارته ما يفوق الأخرى، كذلك فإن كلا البطلين لا ينكرا قيمة الآخر، بل يكيلا المديح لبطولة الآخر، بل أن بطلاً لا يواجه أخر في السيرة إلا ويعظم من قيمة خصمه، ربما ليكون لتضعيف قيمة الانتصار عليه.
(جالس على الكرسي "خليفة" الغندور
راجل منظره يهيب الأسوده
بطل المغارب نعم وعنده شعور
يا اما فيه ناس حسوده وحقوده).
قلنا أن ثمة رواية ثالثة في الجنوب تنتصر لدياب بن غانم وهو أمر مدهش. فدياب بن غانم ليس هلالياً أصيلاً، بل من الزغابة، وهي قبيلة من قبائل ملحقة بالحلف الهلالي، وهي في المرتبة الثانية من حيث أنهم ملحقون ومحتمون بالهلالية، ودياب مع قوته وعنفوانه يحاول دائماً الاستيلاء على السلطة في غيبة أبو زيد الذي يردعه، وهو نفس ما يفعله في تونس مع الزناتي، لكن رواية الجنوب لا تراه رمز الخسة والبطش، بل تراه البطل المناوئ، هو ليس من السادة والأكابر، وليس من بيت الحكم، لكنه الأمل الذي يمكن للصاعد من أسفل إذا ما أجتهد أن يناله فيكون بذلك قد نال ما يستحق.السيرة إذن ليست تعرض لنمط أحادي من البطولة، ولا تبخس العدو بطولته، بل تفهم الدوافع والأسباب، ومبررات السلوك، وهي بذلك حالة جدل وتحاور بين أنداد على نحو ما، تصلح دائماً للاستلهام.
ياسر علام
3 Comments:
At 4:54 PM, Anonymous said…
كنت أتمني من المقال الكثير من التحليل وقليل من الحكايات
At 1:05 AM, سيزيف مصري said…
أظن أن المشكلة أن فعلاً المقال مجرد بداية للحديث في موضوع تستلزم الكثير من الاستطراد والتحليل والاضافة، لهذا نشعر أن الموضوع ناقصاً
At 3:52 AM, Anonymous said…
بصراحة كلامك عجيب ، عن تقسيمك للمنطقة ، فالسيرة الهلالية و انا باحث فيها ، تجعل من الهلاليين هم الابطال في السير الموجودة بتونس و الجزائر ، و ان كانت تنصف الخصم لاعطاء توازن للسيرة ، و السيرة الهلالية نشئت بالاساس في هذه المنطقة ، و كثير من القبائل الموجودة اليوم تنحدر من الهلاليين ، اما كلامك عن زغبة فهو خطأ اخر ، فزغبة بطن عظيم من بطون هلال و هم زغبة بن ابي ربيعة بن نهيك بن هلال كما ورد عند كبار النسابة كابن الكلبي و البلاذري و غيرهم و كما يرد عند مؤرخ الشمال الافريقي ابن خلدون ، ارى ان كثير مما اوردته يحمل اخطاء ، و لكنه اجتهاد نرجو لك التوفيق لكن بعد قراءة اكثر و اطلاع اكثر على الروايات في دول لا اعتقد انك اطلعت عليها
Post a Comment
<< Home