عن الإعلام في الكوارث
إعلام الأزمات بين التفاعل والتغافل
..
مقال ل/ياسر علام
..
على حين ما يعمد البعض للنظر لنصف الكوب الممتلئ إيماناً منه بضرورة عدم التخلي عن التفاؤل والإيجابية، تعجز الكلمات عن وصف حاله إبان اكتشافه أنه حتى هذا النصف المراهن على امتلاءه، هو إلي زوال وذلك بسبب كون الكوب ذاته مثقوب. وتشخص الحالة السابقة حال البعض في مواجهة أزماتنا الثقافية التي ما تكاد تنتهي حتى تبدأ، ويتصور البعض إن المحنة هي منحة مع استخلاص الدرس المستفاد منها وتجنب الوقوع في أخطاء من ذات النوع.. غير أن الحقيقة تطل بوجهها القبيح لتكشف أن التصدعات والبلايا أكثر من أن يحاط بها.. ويظل المرء يضرب أخماساً في أسداس ويتحدث عن قدرات هذه الأمة في تجاوز الملمات والخروج منها متعافياً فعفياً من بعد.. وهذا حق.. لكن الأحق هو كيف حدث ذلك فيما مضى؟!.. لقد حدث فقط؛ بصدق مصارحة النفس، بالنقد الذاتي، بتعرية القبح، بشجاعة المحاسبة، وهي أمور نملك قولها الآن فحسب لا فعلها.. سيرتفع السؤال البديهي لماذا؟! لأن صانعي القول عمدوا عن جهل أو عن تأمر للحفاظ على هذا البون الشاسع بين الفعل والقول، بين الحقيقة والصورة، بين الوجه والقناع، بين الهزائم والتهليل. حسنا ما ومن الذي تعنيه بصانعي القول؟! الإعلام والثقافة فليكن.. هات ما عندك..
نجحت المؤسسة الإعلامية عبر عقود في سحب الثقة من ذاتها في مواجهة مستهلكها بسلوكيات التضليل والترسيخ للوعي الزائف، أما مستهلكها الذي أدارت رأسه الحقائق حين تكشفت فتسأل لماذا كان التضليل؟! فجاءت الإجابة الحاسمة -وفقاً لردود صناعها-، و بأن ذلك كان لاعتبارات أمنية قومية مرة ووطنية مرات.. و في مواجهة هذا السلوك صنع المواطن الصغير من طرفه تعبيراته الدالة والمنتقمة من مضللوه فسمى كلامهم (كلام جرائد)، لتكون المقولة الدالة على لا-مصداقية الإعلام المتوجه إليه.. و لتضفر مع جديلة أخرى تكشف عدم ثقته عن المنتج الفني الذي من المفترض أنه يعبر عنه بكونه (شغل أفلام)..
وصنعت تؤمه (كلام جرايد)،(شغل أفلام) من التليفزيون هذا الصندوق الملون الذي يجلس المرء في مواجهته بعد يوم العمل بين الصحو النوم ليطالع ما يعرضه مطالعته لحوض السمك الملون...
على حين ما يعمد البعض للنظر لنصف الكوب الممتلئ إيماناً منه بضرورة عدم التخلي عن التفاؤل والإيجابية، تعجز الكلمات عن وصف حاله إبان اكتشافه أنه حتى هذا النصف المراهن على امتلاءه، هو إلي زوال وذلك بسبب كون الكوب ذاته مثقوب. وتشخص الحالة السابقة حال البعض في مواجهة أزماتنا الثقافية التي ما تكاد تنتهي حتى تبدأ، ويتصور البعض إن المحنة هي منحة مع استخلاص الدرس المستفاد منها وتجنب الوقوع في أخطاء من ذات النوع.. غير أن الحقيقة تطل بوجهها القبيح لتكشف أن التصدعات والبلايا أكثر من أن يحاط بها.. ويظل المرء يضرب أخماساً في أسداس ويتحدث عن قدرات هذه الأمة في تجاوز الملمات والخروج منها متعافياً فعفياً من بعد.. وهذا حق.. لكن الأحق هو كيف حدث ذلك فيما مضى؟!.. لقد حدث فقط؛ بصدق مصارحة النفس، بالنقد الذاتي، بتعرية القبح، بشجاعة المحاسبة، وهي أمور نملك قولها الآن فحسب لا فعلها.. سيرتفع السؤال البديهي لماذا؟! لأن صانعي القول عمدوا عن جهل أو عن تأمر للحفاظ على هذا البون الشاسع بين الفعل والقول، بين الحقيقة والصورة، بين الوجه والقناع، بين الهزائم والتهليل. حسنا ما ومن الذي تعنيه بصانعي القول؟! الإعلام والثقافة فليكن.. هات ما عندك..
نجحت المؤسسة الإعلامية عبر عقود في سحب الثقة من ذاتها في مواجهة مستهلكها بسلوكيات التضليل والترسيخ للوعي الزائف، أما مستهلكها الذي أدارت رأسه الحقائق حين تكشفت فتسأل لماذا كان التضليل؟! فجاءت الإجابة الحاسمة -وفقاً لردود صناعها-، و بأن ذلك كان لاعتبارات أمنية قومية مرة ووطنية مرات.. و في مواجهة هذا السلوك صنع المواطن الصغير من طرفه تعبيراته الدالة والمنتقمة من مضللوه فسمى كلامهم (كلام جرائد)، لتكون المقولة الدالة على لا-مصداقية الإعلام المتوجه إليه.. و لتضفر مع جديلة أخرى تكشف عدم ثقته عن المنتج الفني الذي من المفترض أنه يعبر عنه بكونه (شغل أفلام)..
وصنعت تؤمه (كلام جرايد)،(شغل أفلام) من التليفزيون هذا الصندوق الملون الذي يجلس المرء في مواجهته بعد يوم العمل بين الصحو النوم ليطالع ما يعرضه مطالعته لحوض السمك الملون...
حسناً الضرورات التعبوية الأمنية العليا جعلت من الجهاز الإعلامي يفتقد المصداقية فهو صوت المعركة و عليه وحسب المثال الشمولي الأعلى (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة).. كان هذا مبرراً وله سياقه وهو أمر نفهمه.. ونحن نعنى ما نقول إذ نقول أننا نفهمه لكننا أبداً لا ولن نتفهمه.. لكن مع الإعلان عن الخروج من عباءة المنظومة التعبوية الجمعية إلي اقتصاد السوق الحر، والذي تم بإيقاع دفعت الشعوب ضريبته كخلاص باهظ الثمن. هل تحررت المنظومة الإعلامية لتفي بمالتطلبات الإعلامية لاقتصاد السوق؟! لقد كشفت الأزمات، والثقافي منها على وجه التحديد، في الأعوام الأخيرة إلي أي مدى أن المؤسسة الإعلامية متخبطة ونجحت في مزج سوءة هذا النظام بتلك من ذلك، لتصنع (كشري) يليق أيما لياقة بمنظمتنا الإدارية الفريدة.
إن المستهدف الإعلامي الاستراتيجي في ظل نظام سلطة الدولة الاشتراكي هو نشر الوعي بمشروع الدولة وتبرير هذا الخيار والحشد والترويج له، وتعرية تهافت وانتهازية ولا إنسانية ولا مشروعية الطرح المضاد الذي يطرحه الخصم الرأسمالي وبذا تكون الثقافة والإعلام ليسا إلا خدمة يتلقها المواطن لخلخله الوعي الزائف الذي يطرحه الآخر، وهي خدمة ينبني عليها الأمن القومي.. وعليه مدى صلاحية هذا الإعلام تقاس بمدى جودة هذه الخدمة والجودة تقاس بمدى تحقق الهدف الإستراتيجي.. أي حفاظه على مصداقية ما ينقله وأن يكون مع مرسخاً لمشروعه الحضاري المطروح على الجماعة عموماً.. وفي حال تغليب واحدة من تلك الكفتين على الأخرى تفشل الموازنة الأمنية الإعلامية.. فإن غلبت صحة معتقداتك الكلية، وغيب خبر يناقضها، فقد دخلت في نسق الخلل، وستظل تخفي وتخفي ثم تحرف من بعد، ثم تأتي الحقيقة فتنهار مصداقيتك وتلك بداية النهاية.. وفي حالة تغليب الكفة الأخرى مثل تغليب صحة الخبر بلا القدرة على وضعه في سياقه وتبريره وفقاً للنسق الثقافي العام الذي تطرحه، تكون قد زرعت الفيروس القادر على النيل منك ولو بعد حين.. جوهر النجاح هو التوازن إذن...
على النقيض من ذلك في اقتصاد السوق، يكون جوهر المعادلة الإعلامية هو (السلعة) وليس (الخدمة)، وهي سلعة معيار نجاحها قدرتها التسويقية، كثافة الراغبين في الشراء، وهو أمر يستلزم الجودة من جانب، و إرضاء الزبون من جانب أخر. واللعبة هنا تتشكل من كفتين هي الأخرى.. أولاهما هي القدرة المهنية الكفء للمنافسة، وثانيتهما تحقيق المبدأ السياقي العام القائل بأن التنافس والتعدد هو الأقدر على تحقيق مصالح الأفراد، وعليه متى جاء ذوق المشتري مخالف لما تعرضه كان عليك أن تسترضيه في كل الأحوال إما بإقناعه بتغيير رفضه المبدئي، وإما أن تتغير أن لتوائمه وألا لن يشتري، والموازنة بين هذا وذاك هو معيار كفائه التحقق الإعلامي في هذا المضمار.. فمخالفة المشترى بالكلية تجعلك تاجر خاسر، والتسليم له بما يريد أن يسمعه منك تجعلك تاجر نصاب..
نستطيع أن نتمسك بهذا السياق أو ذاك، ونحقق الكفاءة والجودة وفقاً لتمثل قناعته ومراعاة توازناته واستحقاقاته، غير أن الأسهل دائماً هو عدم السير على صراط العلمية فنأخذ سوءات هذا النظام وذاك، وننهل من آفة بيروقراطية الأول، و فهلوة الثاني..
فيأتي الحدث الأزمة فيختل الجهاز الحكومي الإعلامي حتى يصل عبر بطء أدائه المعهود عن اتخاذ قرار ملائم ومن ثم إنتاج خطاب محدد وسريع ومحتوى للأمر، ولا يكاد نظفر بالتصريح الحكومي الرسمي إلا في نهاية المطاف، بعد أن يكون حدث الأزمة ذاته قد تم بثه عبر مؤسسات إعلامية أكثر تحرراً، ولاحظ سلوك الجمهور في لحظات الأزمات، إنها تنصرف عن متابعة القنوات الرسمية لحكوماتها مثلاً، لترى ما الذي حدث عبر الفضائيات التي اكتسبت مصداقية وسرعة أداء وكفاية إعلامية مفلتة من عقال لزوم مالا يلزم..
وأما آفة تلك الفضائيات المتعددة الحرة، فتأخذها شهوة المنافسة للحد الذي يجعلها ترغب في أن تكون الأشهى والأسخن في التغطية، لتغازل مشتريها ليس بالسلعة المطلوبة فحسب، بل والأوفر المقدم من صاحب المحل فوق البيعة.. ويصل الحد مداه الأقصى حين تصل تلك المحفزات والمقبلات للحد الذي يغطى على الأصل، بل ويوجهه، وبذا تتحول إلي خميرة إعلامية ترغيبية مشعلة وصانعة للحدث من أساسه.. وكلما مضت المسألة خطوات في هذا الاتجاه كلما طالب المشتري بالمزيد.. حتى يستحيل المنتج الإعلامي لحدث مصنوع خصيصاً لمتلقيه.. ومن ثم نصب كما أسلفنا.. وقد يصدق هذا على كافة مفردات الكيان الإعلامي من فضائيات، لجرائد مستقلة، لإذاعات خاصة، لمدونين..
هكذا تدار معارك خارج الملاعب، فلا يجد الإعلام الحكومي أمامه في مواجهة هذا الانفلات عن ثوابته الأدائية/الوطنية إلا التدخل في عمل المنظومة الأخرى، وعدم اعتبارها كشريك بل كبديل جاء ليحتل مكانته ويعريه فلا يكون له من سبيل إلا باستخدام ما يملكه من أدوات الترغيب والترهيب كحلول تكتيكية، و هو نفس ما يفعله هذا الإعلام مع جهاز الدولة الإعلامي المعطوب في تقديره، فهو يعلم أنه يستطيع أن يلجأ إلي الرشوة كمرغب والفضح كمرهب، وتوجد دائماً الشخصيات التي تستطيع أن تقوم بخوض المباحثات السرية بين هذا وذاك، أو أن يقوم مسئولين رفيعي المستوى بزيارة هنا أو هناك للتخفيف من نبر أولئك بناء على قوانين القوة النسبية التي يمتلكها هؤلاء أو أولئك في لحظة بعينها.. ولكل واقعة ملابستها التي يمكن تفسيرها في ضوء هذا المفهوم..
على سبيل المثال في حادثة جحيم بني سويف التي راح ضحيتها ما يزيد عن الـ50 مسرحي ما بين مبدع وناقد، تعطل الإعلام الحكومي في إعطاء غطاء إعلامي مقنع وظل يكرر (أن الكارثة تقع مسئوليتها على من رحلوا من خلال خطأ مهني قام به مخرج العرض، وصاعد من الحادث عدة أخطاء أخرى تضافرت منها أخطاء تأمين الموقع)،
وفكرة الخطأ المهني حين لم تبد مقنعة بشكل كاف، حيث ظهر مفهوم أن الكارثة لم تكن في الأزمة ذاتها، بل طريقة إدارة الأزمة، وفي شكل تعاطي المؤسسات الطبية، والأمنية، والثقافية، والإعلامية معها، يكفي أن نعلم أن ضحايا الكارثة أكثر من ضعف ضحايا الحريق، أي أن من ماتوا في المستشفيات كانوا أكثر ممن ماتوا في الحريق. أي أن شكل إدارة الأزمة هو الذي سبب الكارثة تقريباً. فالخطأ المهني وارد في أي مهنة، لكن ما الذي يحول الخطأ لكارثة سياق كامل من التعامل معه.. طبيب ينسى فوطه صغيرة في أحشاء مريضة، فيرى أخر أن الحل المثالي هو ذبحها لإخراج الفوطة سليمة، ويطفئ أحدهم النور حتى لا تتم زغللة عين الطبيب المعالج، ثم يأتي الخطاب الإعلامي ليؤكد أن الخطأ خطا المريضة التي لم تحسن اختيار الطبيب وتتحرى عنه..
في مواجهة خطاب أن الكارثة كانت في شكل إدارة الأزمة جاء رد الإعلام الحكومي أننا سندع الأمر للتحقيقات.. وبغض النظر عن صحة هذا، أنا أتحدث عن هذا بكونه خطاب إعلامي تم تصديره، كان معناه المراهنة على إجراءات ومزيد من الإجراءات.. أي إدارة.. ولا يمكن أبداً على أن نعثر على مفهوم أيقوني أو ايمدجولجي يلخص فحوى الخطاب الرسمي آنذاك... تعثرات الإدارة وبيروقراطيتها لا تمكنان من ملاحقة أو صناعة صورة بهذه الكيفية..
و لا يقتصر الأمر فقط على عدم المرونة والملاحقة بل يرتبط كذلك بثبات ذهنية التعاطي مع الأزمات ربما كان مرد ذلك لثبات شخصيات قيادية لما يزيد عن العقدين في مناصب بما يفقدها القدرة عن الملاحقة، ربما لو أنها فقط أخذت أجازة _أعني القيادات لا المسئوليات- ولعدة سنوات ثم عادت للمنصب بعد تنشط رصيدها المعرفي المهني وإحداث عملية إحلال وتجديد لعادت بعد هذا التحديث بما يلائم المستجدات.. وهذا حال الموظف دائماً إنه بحاجة لدورات تدريبية للتطوير غير أنه يبدو مع تعاظم المسئولية يغيب هذا المفهوم.
على الوجه الآخر يبدو أن المؤسسات الإعلامية المستقلة عن سيطرة الحكومات لن تستسيغ مفاهيم مثل (المعارضة المسئولة) ولها أن تفعل، لكن يبقى أن الرهان على جنة المشتري تلك الجنة دانية القطوف، سيصل لمتاهة التحريف فالتخريف فالاختلاق، وإن كان الرهان على المشترى، فحساسية هذا المشترى المنبهر مؤقتاً بالمنتج المتحرر الجديد، لن يدوم إلي الأبد، هستريا التعتيم التي تربى عليها، والتي يأتي الفعل الإعلامي خصتكم ليكون رد فعل لها، مساوي في المقدار ومضاد في الاتجاه، ليصنع هستريا التهييج، لن يدوم مذاقه إلي الأبد، فالتوازن ضرورة ولو بعد حين، فإما أن تشاركوا في فضل إرسائه، وإما تكتفوا بفضل الخروج من عتمة ولكن إلى زغللة..
0 Comments:
Post a Comment
<< Home