عن معتصمي التحرير أو "خيانة" الانسحاب من الميدان
عن معتصمي التحرير أو "خيانة" الانسحاب من الميدان
آخر الليل، لم ابتسم عندما تذكرت ردّ هذا الشاب على الرجل الذي كان يطلب منه أن يترك ميدان التحرير ويعود لبيته، كما فعلتُ عندما سمعته لأول مرة هذا الصباح.
"كنت فين يوم 25 يناير؟ تعرف إيه عن الناس اللي ماتوا؟ ما بنقولشي لحد اقعد معانا، بس بنقول إحنا قاعدين ومش ماشيين."
ألعاب نارية، أعلام، أبواق، بالونات، رقص، أطفال وعائلات كاملة تتنزه في الميدان رغم إنه تتبقى أقل من ساعة على موعد الحظر الجديد، منتصف الليل. لا زالت الأجواء الكرنفالية تحتل المشهد في ميدان التحرير، رغم محاولة الجيش صباح اليوم فض الاعتصام بالقوة "المحدودة" – مثل استخدام عصى وهراوات لإزالة الخيام التي أقامها المعتصمون في كل أطراف الميدان وفي الحدائق الدائرية بقلبه .. ولا أنباء عن إصابات – ولكني تركتهم منذ قليل وقد انكمشت الآلاف التي كانت تملأ الميدان نهارا وتعطّل حركة السيارات التي اخترقت الميدان للمرة الأولي منذ عشرين يوما، بعد أن نجح الجيش في إعادة تسيير السيارات به وسط المتظاهرين، انكمشت لقرابة ستة آلاف أو أقل.
كانت كافة الحركات السياسية "المنظمة" انسحبت من الاعتصام المستمر، بأفق انتهاء هذه المرحلة، والحاجة للتخطيط لأشكال احتجاجية أخرى أكثر تنظيما وبالتالي أقل إجهادا للناس وأكثر نجاحا وتأثيرا، مثل دعوة لمظاهرة مليونية في كل يوم جمعة في ميدان التحرير للتذكير بأن الثورة لازالت مستمرة وأن المطالب الباقية لم تنفذ بعد – مثل إطلاق سراح المعتقلين من 25 يناير وما بعدها أو إصدار معلومات عن المختفين والمفقودين منهم، والإفراج عن المعتقلين السياسيين وإبطال كافة أحكام المحكمة العسكرية الصادرة تجاه مدنيين، وتكوين مجلس رئاسي من خمسة منهم عسكري، وربما حتى أكثرها راديكالية مثل حل جهاز أمن الدولة. طرف شديد الجوهرية في هذه الثورة، مجموعة "كلنا خالد سعيد" على الفيسبوك، لم تناقش حتى مسألة استكمال الاعتصام من عدمها، على أساس أن الاعتصام قد انتهى بديهيا بتنحي الرئيس وأنه علينا الآن التركيز في أشياء أخرى، مثل المعتقلين والمختفين.
المشكلة هي تبقى بضع آلاف من المعتصمين لا يريدون ترك الميدان. ولكن من هؤلاء ولماذا لا يريدون الذهاب؟
عندما ذهبت ظهر اليوم – 13 فبراير – للتحرير كنت أتوقع أن أرى ستمائة أو ألف على الأكثر من المعتصمين. لكنهم كانوا بالآلاف. أغلبهم كانوا متفرجين أو زوار للميدان، سيرحلون إن عاجلا أو آجلا، وسيتركون المعتصمين خلفهم قبل ميعاد حظر التجول. اتصلت بكثيرين لأشركهم همّي: أن يحاول الجيش فض الاعتصام بالقوة ليلا أو فجرا بينما هؤلاء وحدهم، بعد ما انسحب الجميع.
لكني اكتشف أنه في الواقع، لا يوجد ما يمكننا فعله. لا توجد مركزية لهذه الثورة، ولا يوجد تنظيما قويا بما يكفي ليعمل كحائط دفاع يمكنه سد ثغرات من هذا النوع، ولا به ما يكفي من أفراد، ولا لديه اتصالا ساخنا بالجيش لمناقشة مثل هذه الأمور.
أغلب هؤلاء الباقين الآن ممن بدأوا الاعتصام في الميدان من يوم الجمعة 28 ليلا، ليلة سقوط الشرطة بعد حرب الأيام الأربعة (ولكن هذه قصة أخرى)، وحتى الآن. ربما أن أغلبهم بلا خبرات سياسية كبيرة ولا ينتمي لأي حركة سياسية. ربما كانوا أقرب للشهداء. ربما كانوا لا يثقون إلا فيما يرونه بأعينهم ويلمسونه بأيديهم ولا يلقون بالا للوعود. الأكيد أنهم "مستقلون" وأنهم "مخلصون"، وأنهم لا يثقون إلا في "اعتصام ميدان التحرير" كشكل احتجاجي، وأنهم الجذوة المشتعلة للثورة، التي لم تخفت نارها حتى الآن.
يوم الثلاثاء ا فبراير، كاد النظام في معركته اليائسة أن ينجح في ضرب الثورة عن طريق خطاب الرئيس الذي لعب بعواطف الناس بالحديث عن رغبة الرجل العجوز أن يدفن في وطنه، وفي نفس الوقت جعلهم أميل للرضاء بما قدمه من "تنازلات"، مثل تعيين نائب له.
في هذه الليلة، ما قلته لنفسي هو أنه إذا كانت هذه ثورة حقيقية، فلن يوقفها خطاب، ولن يوقفها أحد. وإذا لم تكن بهذه الدرجة من الصدق، فستكون هذه هي النهاية، ويجب وقتها ألا أحزن. ربما هي تمهيد لثورة أخرى قادمة بعد شهور أو سنين. ولكن كان أنها استمرت.
اليوم، تذكرت هذا، وأنا هناك. هؤلاء المستمرون في الاعتصام في ميدان التحرير حتى الآن، رغم النداءات القريبة والبعيدة بإخلائه، لن يمكن إقناعهم بالرحيل. الوسيلة الوحيدة هي أن تقاتلهم لتأخذه منهم مرة أخرى. بالنسبة لهم، الثورة هي هذا الاعتصام، بين صور هؤلاء الأحباء، شهداءنا. لقد مات كثيرون منهم ليحرروا هذه الأرض، ميدان التحرير. أليس التفريط فيها خيانة لهم، بينما لم تنته الثورة بعد؟ الاعتصام هو الذي فعل كل شيء. التحرير هو الذي بدأها وهو الذي سينهيها. التحرير جعل الرئيس يرحل!
أتفق مع وجهة النظر بأن مرحلة الاعتصام المستمر يجب أن تنتهي وأنه يجب استخدام أساليب أخرى أكثر تنظيما وأقل استنزافا لجهدنا وكذلك إثارة لغضب الجيش. ولكن ماذا عن هؤلاء المعتصمين؟
لا شك أن سذاجة مطالبة من رحل بأن يعود للاعتصام لا تقل سذاجة عن محاولة إقناع المعتصمين بإخلاء الميدان قبل أن يروا بأعينهم ما يريدون أن يرونه. في الغالب لن يلجأ الجيش للعنف ليخلي الميدان، اليوم. فماذا عن غد؟ في الغالب أنهم لن يثيروا المشاكل، غدا، بل عل العكس سوف يساعدون في تسيير حركة المرور بالميدان. فماذا عن بعد غد؟
عوّدتنا هذه الثورة من بدايتها على المفاجآت. لم ينجح توقّعا واحدا: "تغيير النظام في مصر يحتاج لسنوات". "لن ينجح يوم 25". "المظاهرة لن تكون أبدا مليونية". "لن يرحل الرئيس أبدا". حتى التوقّع الوحيد الذي كان صحيحا بناءا على كل الشواهد، أن خطاب يوم الخميس 10 فبراير هو خطاب التنحي، لم يصح! وحدث التنحي يوم الجمعة 11 – بعد إصابة كثيرين بالشلل والذبحة الصدرية. ما أريد الإشارة إليه هو أن ما هو محال اليوم يمكن بسهولة أن نراه غدا. بالطبع، يمكننا أن نعوّل كثيرا على "ستر ربنا"، رغم أنه، للأسف، قراءة لا تستند للتحليل العلمي.
الليلة سمعته يهتف بصوته الخشن ولهجته الغير متعلّمه من خلال الإذاعة الوحيدة الباقية في الميدان، السماعات التي أمام الاعتصام الذي بقلب الميدان في الجزء الذي بجوار هارديز:
"بيقولوا لنا عايزين 20 واحد يتكلموا باسمنا. في حد هنا عايز يتكلم باسمنا؟ إحنا بنقولهم إحنا 85 مليون، ومش عايزين 20 ما نعرفهمش يتكلموا باسمنا. إحنا الشعب. مشّينا الريس وحلّينا مجلس الشعب، وإحنا اللي هنحرر المعتقلين. إحنا مش هنتكلم مع حد."
أقرأ هذا الآن في سياق أسئلة الشاب صباح اليوم لمن كان يطلب منه الرحيل. من السهل الآن تفهّم هذا الإحساس الذي يقترب من البارانويا. بالطبع. الكل انسحبوا. أين مئات الآلاف؟ أين عشرات الآلاف؟ هل سنموت؟ رأينا الشهداء يموتون. الثورة لم تنته بعد.
رغم تفهمي الكامل لانسحاب أغلب الناس من هذا الشكل الاحتجاجي، إلا أنني لن أتفهّم أو أغفر لوقوع شهداء جدد. دعوني أقولها، فلا تحدث، مثلما عوّدتنا هذه الثورة.
اليوم تعاملت بعنف لم أعتد عليه مع أحد الأشخاص في التحرير. كان شابا في أول الأربعين ويرتدي بذلة رمادية كاملة. سمعته يتكلم مع اثنين بسطاء بجواري سألاه عما يحدث. في آخر إجابته قال:
"مش عارف الجيش ليه سايبهم؟ هي دانة مدفع واحد ويخلّص الموضوع. وأهم لو ماتوا هيبقوا شهداء برضه."
كان صوتي مرتفعا للغاية وكنت عصبيا – وهذا بالنسبة لي، لمن يعرفني، عنف – وأنا أقول له بأنه في كل دول العالم المحترمة من حق أي إنسان أن يتظاهر أو يعتصم أو يعبر عن أي شيء ما دام سلميا. واتهمته بأن تفكيره بالرد على التظاهر بالرصاص هو تفكير النظام الفاسد الذي مات هؤلاء لكي يسقطوه، فانسحب بعدما شعر بالخطر بعد تجمّع بعض الناس وربما من إدراكه من انفعالي وارتجاف جسدي أنني أصدّق ما أقول.
لمثل هذا وغيره، ربما البلطجية من جديد، تركنا، رغما عنا وعنهم، هؤلاء المعتصمين. ولكن المعتصمون في التحرير الآن لا يخافون. يؤمنون بالاعتصام كما نؤمن نحن بأن مرحلة الاعتصام قد انتهت. وبينما تحمينا جدران بيوتنا ليلا، في الحقيقة، لا أعنى المجاز حين أقول، أن ما يتدرّعون به ويحميهم من هذا البرد السخيف، ومن العنف المحتمل من الجيش، خاصة بعد لكنة الخطاب التي سمعتها اليوم منهم وأنهم يرفضون الحوار، هي صور شهداء الثورة التي تملأ أرجاء الميدان.
0 Comments:
Post a Comment
<< Home