سيزيف مصري

في الأسطورة الأغريقية، سيزيف في الجحيم وعقابه أن يرفع صخرة من القاع حتي قمة جبل شاهق، وقبل أن يصل بقليل تسقط منه لأسفل، فيعود ليبدأ من جديد، بلا نهاية. ما أشبه ذلك بنا، أولادك يا بلدي

Monday, May 31, 2010

ومن حرية التعبير...ما قتل

هَيبِشيا

في أحد المشاهد التي لا تنسي في الفيلم البديع "أجورا" (إنتاج 2009، إخراج أليخاندرو أمينابار وبطولة راشيل وايز) – الذي يتناول حياة ومقتل الفيلسوفة السكندرية العظيمة هَيبِشيا (أو هيباشيا أو هيباتيا كما جرت العادة على كتابة اسمها بالعربية) التي قتلها دهماء يعتنقون المسيحية، عام 415 م، بتحريضٍ من الأسقف سيريل، الذي صار هو حاكم المدينة الفعلي، بتهمتي الكُفر والهرطقة – يحاول اثنان من تلاميذها بعد أن كبرا وأصبحا من ذوي الشأن، أوريستيس والي المدينة وسينيسيوس أسقف القيروان، أن ينقذاها من موتها المحتوم، بعدما يعلمان باتهامات سيريل.
طلبا منها في بساطة أن تعتنق المسيحية، فينتهي الأمر. كانت قبل ذلك قد أعلنت في جمعٍ آخر أنها تؤمن بالفلسفة، الأمر الذي لاقي سخرية البعض.
كان ردّها بالرفض.
قالت لسينيسويس أنه لا يمكنه مسائلة ما يؤمن. أما هي فلا يمكنها ذلك. أي لا يمكنها أن تتخذ موقف عدم المسائلة – الركيزة الأساسية للإيمان، في أي دين. وخرجت من قصر أوريسيتس إلى حتفها بعدما أدركت أنها النهاية، حتى أنها ردّت الحارسين الذين أرادا اصطحابها، حيث قبض عليها المتطرفون في الطريق إلى بيتها الذي لم تره بعدها أبدًا. تقول الرواية التي يسردها الفيلم أن عبدها ديفوس، الذي اعتنق المسيحية وكان يحبها وأعتقته هي وغفرت له محاولة اعتداء جنسيّ عليها تراجع عنها ولم يمكنه استكمالها، تقول أنه قتلها بكتم أنفاسها رحمةً لئلا تعاني ما سيُفعل بها، وزعم للدهماء أنها فقدت الوعي قبل أن يقوموا بتنفيذ حكم القتل بالطريقة التي اختاروها لها، تمزيق لحمها بشقفات الخذف، ثم إحراقها، في سياقٍ يجعلك تتمني لو أن ديفوس فعل هذا حقًا.

"كلهم سقراط لا يجدي الهروب، بينما الأرض أحيطت بالوباء
هكذا نشرق دومًا في الغروب، في أثينا غيلة أو كربلاء."

كما يقول نجيب سرور في هذه الرباعية، كان موقفها لا يختلف كثيراً عن موقف سقراط عام 399 ق. م.، الذي قرر ألا يهرب، كما خطط تلاميذه، من حكم الإعدام بتجرّع السم (الشوكران) الذي صدر ضده بتهمتي إفساد شباب أثينا والاستخفاف بآلهة الدولة؛ أو الحسين بن علي حفيد النبي عندما قرر ألا يعود للمدينة وأن يكمل طريقه للكوفة عام 685 م، ليواجه بما يقرب من 72 من آل البيت جيش "أمير المؤمنين" يزيد بن معاوية الذي وصل لـ 30 ألف مقاتل، ليري مصرع كل أهله، آل البيت، بعينه قبل قتاله وحيدًا وسقوطه أرضًا لمئات السيوف والرماح، في فاجعةٍ رهيبة واجهها الضمير الإسلامي بإنتاج ما سُمّي فيما بعد بـ الشيعة.

"لا يجدي الهروب بينما الأرض أحيطت بالوباء."

في عام 1984 حصل الشيخ عمر عبد الرحمن، الذي أفتى بتكفير وقتل الرئيس أنور السادات، على البراءة في قضية اغتيال السادات أمام المحكمة العسكرية ومحكمة أمن الدولة العليا. (كان خالد الإسلامبولي، الملازم بالجيش المصري، هو الوحيد الذي حُكم عليه بالإعدام رميًا بالرصاص، وصدرت أحكامًا متفاوتة بالسجن ضد 77 متهمًا، منهم عبود الزمر، وبراءة باقي المتهمين – كان هناك 302 متهمًا في القضية!)

ورغم أن فتوى الشيخ عمر كانت هي المرتكز الأول لاغتيال الرئيس، كما اعترف المتّهمون، إلا أن المحكمة برّأت الشيخ عمر على أساس أن الفتوى، مجرد "رأي". وبالتالي فإنه يمكن معاقبة منفذي الاغتيال – أو مفعّلي الفتوى – ولكن ليس المفتي، لأنه قال رأيه، ولا يوجد في القانون شيء ضد الرأي.

بصيغة أخرى، فلنقل إن التطرف في الفعل هو ما يُعاقب عليه القانون، وليس التطرف في الفكر، الذي يجب ألا يرد عليه سوى بالفكر، كما يُقال، وكما نؤمن.

حضرتُ فعاليّات مؤتمر "الإعلام والمواطنة" الذي نظّمته "مصريون ضد التمييز الديني" السبت الماضي 29 مايو 2010، في مقر حزب الجبهة الديمقراطية، وكان مما أثار الجدل فيه ورقة قدّمها أ. روبير الفارس في جلسة كان عنوانها "الإعلام الطائفي وخطورته على المواطنة" عرضَ فيها عيّنات (حرص على تكرار أنها عشوائية وليست دراسة علمية) من إصدارات شهرية رسمية في مصر، مثل مجلة الأزهر والوعي الإسلامي والمختار الإسلامي، كان بها طعون ونقد في العقيدة المسيحية. كانت وجهة نظره أنه هذه المجلات تصدر في مصر، أحيانًا من أموال دافعي الضرائب كما في حالة مجلة الأزهر أو بتصريح من الدولة كما في حالة المختار الإسلامي، ورغم ذلك لا تخلو دائمًا من أشكال هذا الهجوم والنقد المباشر للعقيدة المسيحية، الشيء الذي بلا شك يساهم في تزكية الثقافة الطائفية. وكانت أحد التعليقات من إحدى الحاضرات بأن حرية التعبير تقتضي أن يقول أي شخص ما يشاء ما دام هذا رأيه وأن الفكر يجب أن يُرد عليه بالفكر، وبالتالي فهي لا ترى غضاضة فيما يعرضه أ. روبير.

ولكن الأمر على ما يبدو فيه من بداهة به شَرَك خطير، فالرأي في العقيدة أو ما يؤمن به شخص آخر ليس مثل الرأي فيما يلبسه هذا الآخر أو ما يسلكه أو يفعله أو يقوله أو يفنّه. وحرية التعبير التي يجب أن تكون مُطلقة، ولا شك في هذا، يجب تقييدها عندما يتعلق الأمر بعقيدة أي آخر، أو آخرين. لماذا؟

السبب ببساطة هو أن العقيدة لا تخضع للمنطق، وهو المعنى الذي تقوله هَيبِشيا.
الإيمان بوجود الله أو عدم وجوده يظل اختيارًا شخصيًا لأن ما يسمّى بأدلة وجوده تقريبًا لا تقل وجاهةً أو عددًا عن الأدلة التي تسمى بأدلة عدم وجوده، حيث أنه في النهاية لم يره أحد؛ لا يوجد دين بغير غيبيات، بغير وحي، بغير الاختبار الحقيقي للمؤمنين، بغير ما لا يُرى ولم يُرى ولكن يجب أن يُصدّق ويُضحّى بالروح في سبيله.
كيف يُرد على طعنٍ في شيء كهذا؟


الرأي لا يكون فيما يؤمن به الآخرون، لأن "الدين هو ما قال صاحبه أنه كذلك." أما حيث نعيش سويًا في وطنٍ واحد، أو حتى في عالمٍ واحد، فما يجب أن يعنينا هو كيف يعاملنا الآخرون، لا ما يؤمنون.

الرأي في عقيدة الآخرين ليس من حرية التعبير، لأنه يترتب عليه النفور والكراهية في أفضل الحالات، والتكفير والقتل في أسوئها. إنه اعتداء على الخصوصية والحق في الاعتقاد، ولا يمكن اعتباره حق في التعبير.

والنقطة الهامة هنا هي أن حرية تعبير الشخص عن العقيدة (أن تقول ما تؤمن، أن تمارس طقوس ما تؤمن) تختلف تمامًا عن حرية تعبير الشخص عن رأيه في عقيدة الآخرين (أن تقول أن ما يؤمنون به هراء أو غير منطقي أو كُفر)، وشتّان بين التعبيرين!

يقول أبو العلاء المعري: "ومن يأبق في ملك ربه...ويخرج من أرضٍ له وسماء."

للأسف، بالفعل ليس لدينا إلا هذا العالم، الذي نستشف من التاريخ والتجربة الإنسانية أن الغالبية تتّفق على أنه لا يتّسع للجميع. ولا مهرب آخر، ربما غير هذا الذي نذهب له مرغمين عندما يحن الوقت، حيث لم يرجع أحد ليخبرنا عما رآه، وحيث أخبرنا أهل الثقة – في ثقة – عما هنالك، ولنا أن نؤمن لأي مما قالوا، كلٌ لما يستريح!
عسى أن نستريح