سيزيف مصري

في الأسطورة الأغريقية، سيزيف في الجحيم وعقابه أن يرفع صخرة من القاع حتي قمة جبل شاهق، وقبل أن يصل بقليل تسقط منه لأسفل، فيعود ليبدأ من جديد، بلا نهاية. ما أشبه ذلك بنا، أولادك يا بلدي

Saturday, September 04, 2010

نعم! للفرنسيين حظر النقاب والبرقع


نعم! للفرنسيين حظر النقاب والبرقع


ما دفعني لكتابة هذا الرأي بشأن حظر البرلمان الفرنسي لارتداء النقاب أو البرقع في الأماكن العامة هو موقف الكثير من المثقفين المصريين منه، والذي يستند إلى منطق شديد البساطة والبداهة، يتم التعبير عنه دائما بما يلي:

"على الرغم من أنني ضد ارتداء النقاب (وحتى الحجاب) ولا أطيقه، إلا أنني مع حرية أي امرأة بالغة عاقلة في أن ترتديه، وضد إجبارها على خلعه. هذه حرية شخصية."

منطقيا، لا بد أن ينتهي الكلام ها هنا. فماذا يُمكن قوله بعد هذا؟

الحكاية بدأت بأن أقرّ البرلمان الفرنسي في منتصف يوليو الماضي، وبغالبية ساحقة، مشروع قانون يحظر ارتداء النقاب في الأماكن العامة ويقضي كذلك بمعاقبة المخال فين بغرامة مالية قدرها 150 يورو، والخضوع لبرنامج تدريبي على المواطنة، أو أي من العقوبتين. كما يتضمن القانون معاقبة كل من يجبر امرأة على ارتداء النقاب بالسجن لمدة عام، أو غرامة مالية تُقدر بـ15 ألف يورو.

دعونا نبدأ بالحرية الشخصية، والعبارة الأشهر أن حرية الفرد تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين. كل القوانين والشرائح تحرّم وتجرّم الاعتداء على الآخرين، ولكنها تبيحه مطلقا، في حالة "الدفاع عن النفس". ومطلقا هنا تعني أنه حتى القتل، دفاعا عن النفس، لا يتم تجريمه.

المجتمع الفرنسي مجتمع علماني، يدعّم ويرتكز على قيم المواطنة. أي أنه في المجتمع الكبير، حيث نعيش سويا، يجب أن نعامل بعضنا البعض بمرجعية واحدة، هي أننا "موطنون"، أي سواسية وسواء، وليس بأي مرجعية أخرى. الجميع مواطنون فرنسيون، وهذه هي الهويّة الأولى، الأهم – أو، هذا ما ينبغي أن يكون. ولكن من حق أي فرد كذلك أن يكون له هويّات أخرى، ثانوية، فتجد أن المواطن الفرنسي يمكن أن يكون أبيضا أو أسودا أو مسلما أو ملحدا أو سيخيّا أو جزائري الأصل أو ...، والقائمة قد لا تنتهي (المقصود أنه يشعر بمشاعر انتماء نحو مجتمع (أو مجتمعات) أصغر، تشكّل ذاته وما يجعله مختلفا عن غيره). النقطة الهامة هنا أن كل هذه الهويّات، تقف في الأهمية والأولوية بعد الهويّة الأولي: هويّة المواطنة. والمشهد المتعدد الثقافات والهويات الذي يرتبط بهذه التعددية يثير الإعجاب، إطار بداخله صورة بها كل ألوان الطيف المختلفة أو المتناقضة تلك.

هنا ينبغي ملاحظة الفرق بين حظر "النقاب" أو "البرقع"، وحظر "الحجاب". ويجدر بنا أن نلقي نظرة سريعة عن الأصل اللغوي لهذه الكلمات.

في "لسان العرب" لابن منظور: "حجب: الحِجابُ: السِّتْرُ. حَجَبَ الشيءَ يَحْجُبُه حَجْباً وحِجاباً وحَجَّبَه: سَترَه ... وامرأَة مَحْجُوبةٌ: قد سُتِرَتْ بِسِترٍ ... وحَجَبَه: أَي مَنَعَه عن الدخول ... والحَجابُ: اسمُ ما احْتُجِبَ به، وكلُّ ما حالَ بين شيئين: حِجابٌ".

أما عن النقاب، فيقول: "نقب: النَّقْبُ: الثَّقْبُ في أَيِّ شيءٍ كان ... ولكن النِّقابُ، عند العرب، هو الذي يبدو منه مَحْجِرُ العين، ومعناه أَنَّ إِبداءَهُنَّ الـمَحَاجِرَ مُحْدَثٌ، إِنما كان النِّقابُ لاحِقاً بالعين، وكانت تَبْدُو إِحدى العينين، والأُخْرَى مستورة، والنِّقابُ لا يبدو منه إِلا العينان، وكان اسمه عندهم الوَصْوَصَةَ، والبُرْقُعَ، وكان من لباسِ النساءِ، ثم أَحْدَثْنَ النِّقابَ بعدُ؛"

وعن البرقع: "برقع: البُرْقُعُ والبُرْقَعُ والبُرْقُوعُ: معروف، وهو للدوابِّ ونساء الأَعْراب ... قال الليث: جمع البُرْقُع البَراقِعُ، قال: وتَلْبَسُها الدوابّ وتلبسها نساء الأَعراب وفيه خَرْقان للعينين ... وقال شمر: بُرقع مُوَصْوَصٌ إِذا كان صغير العينين".

يشير هذا إلى أن دلالة اسم الحجاب هي وجود ستر أو حاجز، وعندما يستخدم بمعني الزي/غطاء الرأس، فيكون هذا الحاجز بين "الشَّعر" وبين الأعين المحدّقة؛ أما دلالة اسم النقاب فهي وجود نقب أو ثقب في ستر أو حاجز، وعندما يستخدم بمعني الزي/غطاء الوجه، فيكون وجود نقب أو ثقب للعين(ين) في ستر أو حاجز، هو في هذه المرّة بين "الوجه" والأعين المحدّقة، وهو نفس معنى البرقع، الذي يطلق لغةً على ما ترتديه النساء، والدواب.

النقاب زي يمثل العزلة والفصل، الحجب الكلي، وليس الجزئي مثل الحجاب الذي يغطي الشعر. الوجه والعينان هما أداة التواصل الاجتماعي، ومن هنا كانت المشكلة الأمنية – الخطر/الخوف ممن لا يمكن رؤية وجهه أو وجهها، هذا المنفصل المتواري. إنه إعلان بعدم الوجود في نفس الفضاء، أي الانتماء إلى آخر، وحقيقة مادية ملموسة تدعّم هذا الإعلان، فيصير واقعا. من هنا كانت وجاهة الحديث عن "مجتمع آخر" تنتمي له مرتديات النقاب، مجتمع بداخل المجتمع الكبير، ما يميزه عن المجتمعات الأخرى النظيرة التي يمكن الحديث عنها – مجتمع السود، الآسيويين، العرب، الخ – هو وجود حدود "مادية" حقيقية، وليست افتراضية، تجعل هويّة المواطنة في مرتبة ثانية. الحديث هنا عن "الغيتو" ghetto الذي يعيش فيه مجتمع أقلية أصغر منفصلا بشكل مادي عن المجتمع الأكبر، وليس عن وجود شعور بالانتماء نحو مجتمع أصغر أو ميل نحو هويّة ثانية، يجعل هذا الانفصال معنويا أو افتراضيا. ولاختيار هؤلاء النساء لارتداء النقاب – ومعارضتهن ووقوفهن أمام قرار الحظر – دلالة، هي انتمائهن أولاً لمجتمع هويّة النقاب، لا مجتمع هويّة المواطنة. إنه الأقرب، وتلك الهويّة هي الأولى، وليس المواطنة الفرنسية.

وتتضح هذه الحالة بصريا بامتياز. يمكن الحديث عن التعدد عند تأمل صورة بها مجموعة بشريّة متباينة الألوان والزي – ويشمل هذا الحجاب – ولكن ليس تلك التي بها بقعة (أو بقع) سوداء كبيرة "تحتل" جزءا من الصورة. هذه الصورة الأخيرة ينتمي جزء منها لبُعدٍ آخر، وهذا السواد ربما يعني أنه "لا يوجد أحد هاهنا".

المجتمع الفرنسي، مثله مثل أي مجتمع آخر، يجب أن يكون لديه الحق في الدفاع عن نفسه. على أن الأمر هنا لا يصل إلى القتل، رغم أنه يوجد تعدي، بما لا يدع مجالا للشك، على روحه: المواطنة. ربما يجدر هنا التذكير بأن مشروع القانون يشير إلى غرامة مالية و/أو الخضوع لبرنامج المواطنة، أي برنامج تدريبي وتثقيفي يحاول جذب هؤلاء اللاتي ينظرن من خلال ثقب (أو فتحة مستطيلة بالنسبة لأكثرهن انفتاحا!) إلى مجتمع المواطنة الذي ينادي بأن يعامل الفرنسيون بعضهم البعض كمواطنين، لا أي شيء آخر، وبأن هذا الحظر في "الأماكن العامة"، وليس الخاصة، أي أن الدفاع هنا عن الفضاء العام من أجل القيم التي وصل الفرنسيون لها بعد تجربة طويلة وقاسية لم نمر بمثلها بعد لنشعر ما قد يشعرون به عندما يحدق بالمواطنة هذا الخطر الداهم: الوعي الطائفي المتطرف. أما في الفضاءات الأخرى، الخاصة، فحرية الخلع أو الارتداء، الوصل أو الفصل، ما زالت كما هي، حيث سيدافع عنها الفرنسيون ما بقي مجتمعهم علمانيا، بعكس مجتمعات أخرى، مرشحة دائما للقتل، دفاعا عن أشياء أخرى.
لهذا كان هذا هو رأيي: نعم! للفرنسيين حظر النقاب والبرقع في الأماكن العامة.