سيزيف مصري

في الأسطورة الأغريقية، سيزيف في الجحيم وعقابه أن يرفع صخرة من القاع حتي قمة جبل شاهق، وقبل أن يصل بقليل تسقط منه لأسفل، فيعود ليبدأ من جديد، بلا نهاية. ما أشبه ذلك بنا، أولادك يا بلدي

Thursday, April 23, 2015

عن الموسيقى المستقلة: تأملات وأسئلة إضافية


عن الموسيقى المستقلة: تأملات وأسئلة إضافية

سعدت كثيرًا بقراءة مقال رامي أبادير التحليلي الهام "تناقضات الموسيقى المستقلة"، وبعد أن قرأت أيضًا بكثير من الاهتمام مقال شارل عقل "عن الموسيقى المستقلة أيضاً" قررت أنه من المفيد المشاركة في هذا النقاش، من خلال تأملاتي للمشهد المستقل الموسيقي المصري الحالي، من خلال خبرتي الذاتية، كأحد المنتمين للمشهد، بهدف المساهمة في محاولة الإجابة على الكثير من الأسئلة الهامة التي تخص الموسيقى المستقلة في مصر.
على سبيل المثال، هل هي الموسيقى المستقلة، أم البديلة، أم الأندرجراوند، أم الحرة، هل من مسمى أدق؟ وهل من فارق بين نوع موسيقى وأغاني فِرَق ومطربي ومطربات تيار الأندرجراوند underground stream، وفِرَق ومطربي ومطربات التيار السائد mainstream؟  وهل من حدود فاصلة وإمكانية تنقل وحركة مفتوحة بين الدائرتين؟ وهل الاستقلال الفني اختيار أم إجبار؟  بمعني هل الانتماء لتيار الأندرجراوند اختياري أم يجبر عليه الفنان، ولو مرحليا؟

مصطلح أندرجراوند
سأفضّل أن استخدم مصطلح تيار الأندرجراوند خلال هذا المقال، كمصطلح اعتمده بصورة مؤقتة، للإشارة إلى كل الفِرَق والمطربات والمطربين الذي يرتبط هذا الاسم بهم أو نظيره "المستقل" أو "البديل". ويقابله مصطلح التيار السائد.
هذا التعبير يعتمد على صورة ذهنية لبحر أو تيار مائي أساسي هائل يوجد في كل مكان، باستثناءات قليلة لها أسباب، وفي نفس الوقت يوجد بالصورة تيار آخر تحت الأرض. بالطبع، لا نرى هذا الذي تحت الأرض بينما نحن فوقها. وهنا يبدو هذا السؤال منطقيا، هؤلاء الموسيقيون والمطربون والمطربات في وضعيتهم المفترضة تحت الأرض، لماذا هم هناك، ولما لا يخرجون ليستمتعوا بالنور والشمس؟ ولكن لدينا سؤال آخر سابق لهذا، وهو من هم – أعني مطربي ومطربات وفرق الأندرجراوند؟
هناك بالفعل أبعاد كثيرة يعتمد عليها تعريف الأندرجراوند، الذي لا يوجد اتفاق عليه في تلك اللحظة، ولكني أزعم إمكانية الوصول لتعريف متفق عليه بنسبة كبيرة في حالة السعي لهذا وطرح استبيان مثلا أو مناقشة بين أهم الأسماء التي توجد في المشهد الموسيقي المصري بتيار الأندرجراوند. لا يوجد اتفاق لأن العبرة أيضًا بأولويات هذه الأبعاد، أيهم يأتي أولاً. مثلا، بفرض وجود نقابة موسيقية مستقلة للدفاع عن حقوق هؤلاء الفنانين، سنودّ أن يكون لدينا فكرة عما سيميّزهم، وعن اللحظة التي عندها سنعتبر أن عضويتهم للنقابة ليس لها معنى، وأنه يجدر بهم الانضمام مثلا لنقابة المهن الموسيقية، لأن "المصالح" صارت مختلفة.
وحتى لا ننجرف من البداية نحو تعريفات عامة ستبدو انطباعية وذاتية، فلنبدأ بنفس الطريقة التي أوصلتنا إلى تخيّل صورة الأندرجراوند، فلنبدأ بالحديث عن التيار السائد.

التيار السائد
ما الذي يميّزه؟ في كلمتين فقط، ستكون إجابتي هي السوق والمحتوى. ويرتبط الاثنان معًا بشكل كبير. السوق أعني به المكان الذي فيه المنتجات والجمهور؛ والمحتوى أعني به ما يميز المنتَج كمنتَج مثل الكلمات واللحن والتوزيع.
نحن نتحدث عن عمرو دياب ومحمد منير وشيرين عبد الوهاب وأنغام، كأمثلة أيقونية.
تتراوح تقديرات تكلفة ألبومات نجوم التيار السائد ما بين مليون و2 مليون جنيه مصري، وتكلفة الأغنية الواحدة بين 70 و120 ألف جنيه. وفيما يخص أجور الحفلات، يصل أجر الحفل الواحد إلى 600-700 ألف، وقد يزيد إلى مليون جنيه في حالة عمرو دياب أو يقل إلى 100 ألف في حالات مثل إيهاب توفيق ومصطفى قمر. وسعر التذكرة في بعض الحفلات يصل أحيانًا إلى ثلاثة آلاف وخمسمائة جنيه – التذكرة الواحدة. أما بالنسبة لقيمة تعاقد المطربين مع شركات الإنتاج، ذكر موقع عمرو دياب أوّل العام الماضي أن الهضبة يشترط لكي يوقّع عقدًا جديدًا مع أي شركة، سواء شركة جديدة أو روتانا التي كان قد وقّع معها العقد الماضي، أن تكون قيمة التعاقد 6 ملايين دولار. بينما بلغت قيمة تعاقد شيرين مع شركة روتانا أربعة ملايين دولار ل 3 ألبومات، وبلغت قيمة عقد أنغام مع نفس الشركة مليون دولار للألبوم الواحد.
أما بالنسبة للجمهور، الطرف الآخر للسوق، فحفلة منير في مايو 2013 على سبيل المثال حضرها 200 ألف متفرج. وعلى الإنترنت، نشر موقع البوابة نيوز أن ألبوم " أنا كتير" للفنانة شيرين عبد الوهاب قد حقق رقمًا قياسيًا في عدد مرات المشاهدة، على قناتها الرسمية على موقع يوتيوب، ووصل إلى أكثر من 10 مليون في فترة قصيرة لم تتجاوز العشرة أيام، والأغنية وحدها وصلت عدد مرات مشاهداتها على موقع يوتيوب إلى ثلاثة ملايين ونصف.
أما مشاكل الإنتاج، فليست في عدم وجود أموال للإنتاج، وإنما من عينة اختلاف المطرب مع شركة الإنتاج على موعد صدور الألبوم أو تأخير صدور الألبوم برغم الاتفاق، أو تدخل المسئولون في الأمور الفنية.

تيار الأندرجراوند
ما الذي يميّزه عن التيار السابق؟ في كلمتين فقط، ستكون إجابتي هي نفس الإجابة: السوق والمحتوى.
نحن نتحدث عن فرقة إسكندريلا وفرقة كايروكي ومريم صالح ومحمد محسن، كأمثلة أيقونية.
يجدر بنا هنا البدء بالجمهور، وكأمثلة دالة، لدينا أرقام واضحة على موقعي فايسبوك ويوتيوب. يتجاوز عدد المشاركين بصفحة مريم الرسمية على موقع فايسبوك 680 ألف، ومعجبو فرقة كايروكي يتجاوزون 500 ألف على صفحتهم، وصفحة محمد محسن الرسمية على نفس الموقع عليها 480 ألف شخص، بينما يبلغ عدد المشاركين في صفحة إسكندريلا على موقع فايسبوك 40 ألف فقط.
أما الحديث عن الأجور وتكلفة الألبومات، فمقارنة بالتيار السائد، ليس له الكثير من المعنى هنا. على أي حال، سعة أهم المسارح التي تستضيف فناني وموسيقيي الأندرجراوند مثل مسرح الجنينة وساحة روابط وقاعتي الحكمة والنهر بساقية الصاوي تتراوح ما بين 150 متفرج في ساحة روابط إلى 1500 بقاعة النهر في الساقية. وغالبًا ما يكون الاتفاق هو خصم جزء من دخل التذاكر كضرائب أو مصروفات ثم المشاركة بنسبة فيما تبقى من دخل التذاكر، باستثناء مسرح الجنينة الذي يعطي للفرقة أو المطرب أجرًا للعرض ويتولى هو أمر التذاكر. حتى إذا اختلف أجر الموسيقيين المصريين عن غير المصريين، واختلف أجر المطربين عن بعضهم البعض بحسب الجماهيرية، سنجد أن هذا كله لا يزال يدور في فلك واحد، لا يقارن نهائيًا بأخر الأسماء بقائمة التيار السائد. فلنتذكر أن أجر حسام حبيب 60 ألف جنيه في الحفل، وأن سعر التذكرة الواحدة بعض الحفلات للتيار السائد تكون 3500 جنيه، وهو ما يمكن أن يكون متوسط أجر ليلة عرض لمطربة أو فرقة من الأندرجراوند!
وأخيرًا، يمكنك أن تعمل "تاج" tag لمريم صالح ودينا الوديدي ومحسن وحازم شاهين على موقع فايسبوك لتخبرهم برأيك وربما ترسل لهم كلمات ليغنونها. بالطبع، لا يمكن أن يحدث هذا مع شيرين عبد الوهاب ولا عمرو دياب ومحمد منير. وحتى بافتراض وجود صفحات تفاعلية بأسمائهم، ففي الغالب ليس هم من يديرونها ولا يصل لهم بالضرورة ما ترسله.
فرضيتي هي وجود فواصل صارمة بين التيار السائد وتيار الأندرجراوند، تعوق دون التواصل وحركة الأجساد، وأنهما عالمان مختلفان. لكل سوقه وجمهوره ومحتواه.

المنطقة بين التيارين
يعلم كل من في تيار الأندرجراوند تفوّق إنتاج التيار السائد على إنتاجهم من ناحية الجودة التقنية، أي من ناحية جودة ونقاء التسجيلات، يسهل استنتاج السبب؛ إنه تفوّقه في الإنتاج وإمكانية توفير أستوديوهات صوت بمعدات وإمكانيات ممتازة، ودفع أجور عالية للحصول على أفضل مهندسي صوت، وأفضل عازفين، فضلا عن إمكانيات إضافية تؤدي لنتائج مبهرة مثل رسم الصوت. ويمكن تجربة هذا التفوّق التقني بالاستماع لأي عينة عشوائية من ألبومات كلا التيارين والمقارنة بينها.
طبيعي أن تتمنى أي فرقة وأي مطربة ومطرب أن يتمتعوا بإنتاج وأجور وانتشار وجماهيرية التيار السائد، فضلا عن الجودة التقنية. من يكره؟ هل من أسباب تحول دون الرغبة في ذلك؟
المشكلة الأساسية هي أنه لا توجد منطقة ثابتة بين التيارين. توجد أبواب تظهر لدقائق وتختفي، مثل بوابات الانتقال بين العوالم المختلفة في أفلام الخيال العلمي.
بعض منتجي التيار السائد يمكنهم جذب بعض المطربين أو المطربات من الأندرجراوند لكي يلتحقوا بالسوق، ولكن بالطبع مقابل الالتزام تماما بوجهة نظر المنتج لأن هدفه هو الربح، ولأنه يعلم كيف يربح، ولأنهم لا ينتموا لهذا العالم، ويحتاجون لمن يعلم كيف تمشي الأمور. وبالطبع، لماذا يقع الاختيار على فنان دون آخر لعرض نقله إلى الجانب الآخر، سؤال لا بد من وجود إجابة له، أي سبب. مثلا، ما فعلته فرقة كايروكي بالفعل يؤهلها لجذب الانتباه بما يكفي لتنتقل للجانب الآخر: أغنية جريئة مثل مطلوب زعيم، والاستماتة في التجديد رغم فقر الخيال الموسيقي عن طريق مشاركات غنائية لا علاقة لها ببعض ولا بتوجّه الفرقة الفني: عايدة الأيوبي، وعبد الباسط حموده، وسعاد ماسي!

الاحتواء وتنميط المحتوى
المشكلة الأساسية بالنسبة لمطربي ومطربات وفرق الأندرجراوند لكي يذهبوا لأعلى، للتيار السائد، بافتراض وجود الأبواب السحرية، هو أن الأمر سيكون احتواء، ولا احتواء بدون تحرير edit. وهنا اتفق مع رامي أبادير في أن هناك قوالب. إما أن تحتويك، أو لا مجال لاستمرار اللعبة.
فلنضرب بعض الأمثلة.
عندما غني محمد منير أغنية من إنتاج تيار الأندرجراوند اضطر إلى القيام بهذا التحرير. لا أظن أن هناك أغلبية ستتفق على أن النسخة التي غناها أفضل جماليا من ناحية المحتوى من الأصل. أعني تغيير المقام الموسيقي وحذف الكوبليه الثاني، الذي هو بالنسبة للبعض الذروة الجمالية للأغنية. لا أظن أن الأسباب لها علاقة بالذوق، وإنما بالقالب الغنائي المقبول. الكنج فعل هذا بالرغم أن هذه الأغنية كانت في فيلم تسجيلي مفترض أنه مستقل ولن يعرض أبدًا بدور السينما، أي بالرغم من عدم وجود سبب تجاري. فقط فعل ما يفعله دائمًا.
أحب لأوكا وأورتيجا ثنائي المهرجانات الشهير مهرجان "هاتي بوسة يا بت" الذي يسمّى أيضًا ب "الوسادة الخالية". أتّفق مع رأي رامي أبادير في أن موسيقى المهرجانات كانت "مزيجاً من الثقافة الشعبيّة والفرعيّة، والتي اعتمدت في بداياتها على الإنتاج المستقل ثم سرعان ما تحولت إلى فرق جماهيريّة بعد احتوائها من المنتجين الكبار وشيوع موسيقاهم."
لا أعرف كم كان أجرهما على أغنية "ايوه أيوه" في فيلم عبده موتة، من إنتاج السبكي. ولكن ما أعرفه جيدًا هو أن هذا اللحن نسخة باهتة من لحن "هاتي بوسة يابت"، خاصة من بداية "ركبوني مرجيحتي. عايز أركبها لوحدي". نفس اللحن. لماذا يعيدان إنتاج نفسهما (بالعامية "نحت النفس")؟ ربما لأن الأصالة ليست هامة في التيار السائد، لها مرتبة ثانية؛ ننتج لأن علينا أن ننتج، لا لأننا نريد هذا بالفعل؟ جدير بالذكر أن عدد مرات المشاهدة على موقع يوتيوب بالنسبة لأغنية "أيوه أيوه" بلغ 10 مليون مشاهدة، بينما "هاتي بوسة يا بت" لم يصل لنصف هذا الرقم، مع إنها الأغنية الأصلية لا النسخة الباهتة، وأنها أقدم بعامين.
هل يمكن للتيار السائد احتواء فرقة إسكندريلا؟ بافتراض أنهم توقفوا عن غناء أغاني الثورة؟ أو ربما بافتراض عودة موضة الثورة في التليفزيونات؟
اريد أن أقول أن الأمر ليس بهذه السهولة. يجب أن تتلوّن تماما بألوان الصورة، وإلا لن يمكن وضعك بها، وإن أتيت وظللت كما أنت ستكون شيئًا شائهًا سرعان ما سيتم لفظه. إنه عن التطبيع: كل شيء يبدو طبيعيًا. توجد قواعد صارمة في هذا التيار السائد تتعلق بالمحتوى وشروط الإنتاج. وتهدف هذه القواعد مثل أي قواعد بأي نظام، للاستقرار. وتهدف أيضًا لإحداث تغيير طفيف لاحتواء الملل والرغبة في التغيير، وبالتالي استمرار الاستقرار.
المانع الوحيد، بافتراض وجود عرض الاحتواء الكريم، هو الاضطرار لتنازلات فنية. وأعتقد أنه أمر حتمي. يراهن البعض على إمكانية "عودتهم" لما كانوا عليه بعد زرع أنفسهم "هناك". حتى اليوم، لم أسمع عن فائز واحد بهذا الرهان. ولكني غير متأكد ما إذا كان صعبًا فقط أم مستحيلاً.

الجماهيرية
من هنا نفهم أهمية رعاية شركات تجارية عملاقة مثل بيبسي وكوكاكولا لفرق مثل كايروكي ووسط البلد. وأهمية الظهور في برنامج "البرنامج"، وبديهية انتقال باسم يوسف، بعد فورة الثورة وعودة مياه الجماهيرية والأضواء إلى مجاريها، من ONTV  لقنوات مثل CBC أو MBC. الأمر أكبر بكثير من انتقال الأجر من فئة الآلاف إلى فئة الملايين. إنه انتقال الفرقة بكاملها من سوق لسوق آخر، من فضاء لفضاء آخر، به حجم مشاهدات ضخمة وقنوات تليفزيونية جماهيرية وكذلك نمط إنتاجي مختلف. وهنا يمكن أن أتفق مع رأي رامي أبادير بأن "الاستقلال الموسيقى بمثابة مرحلة انتقاليّة أو اختيار مؤقت للصعود إلى الوسط الجماهيري وتحوّل موسيقى الفنان إلى موسيقى شائعة، مع وجود استثناءات."
في مقالة تحليلية فلسفية عن مصطلح الموسيقى البديلة، يذكر شادي لويس مقولة أدورنو  "أن الإنتاج الكثيف للنصوص الموسيقيّة في السوق الرأسماليّة يميل لفرض قيود على خيال المتلقّي: إذ يتم تنميط النصوص الموسيقيّة من خلال عمليّات تكراريّة دوريّة تشبه عمليات الإنتاج الصناعي، حيث يتم نسخ وإعادة إنتاج الأنماط اللحنيّة والنصيّة الرّائجة تجاريّاً لإرضاء ذوق الجمهور المبرمج سلفاً." وينتقل منها إلى فرضية ترى "استحالة فصل الثقافة البديلة عن نمط الإنتاج الاستهلاكي الرأسمالي في المجتمعات الحديثة، وعليه يتم استيعاب الموسيقى البديلة داخل منظومة الإنتاج الرأسماليّة المرنة وبشكل دوري، لتقوم بإزاحة الموسيقى السّائدة أو تطعيمها في دورات من التجديد والإحلال تضمن استمرار المنظومة الإنتاجيّة وإثرائها."
بدون استغلال نوافذ غير طبيعية، أكبر أغاني على موقع يوتيوب تنتمي للأندرجراوند من حيث عدد المشاهدة هما أغنيتي يسرا الهواري "السور"، وأغنية دينا الوديدي "وحده"، الأولى 357 ألف والثانية 364 ألف، هذا بتاريخ مايو 2014.
وباستغلال مثل هذه النوافذ غير الطبيعية، مثل الظهور في برنامج "البرنامج"، بلغ عدد مشاهدات فيديو لفرقة مثل فرقة "شوارعنا" السكندرية يعرض فقرة الفرقة مع باسم يوسف 450 ألف مشاهدة. أزعم أنه كان يستحيل حدوث هذا، في هذه المرحلة من عمر تجربة هذه الفرقة، دون هذه النافذة. هذا، فضلا عن الملايين التي شاهدت الفرقة في مصر والمنطقة العربية بينما تشاهد برنامج "البرنامج".
بعض فيديوهات فرقة كايروكي على موقع يوتيوب تعدت مرات مشاهدتها 2 مليون ونصف، مثل أغنية اثبت مكانك وأغنيتهم مع عايدة الأيوبي. أما أشهر أغانيهم المصورة وقت الثورة وقبل شهرتهم مؤخرًا، أغنية مطلوب زعيم، لم تصل مشاهداتها إلى مليون ونصف.
من هنا يمكن أن نفهم أيضًا تهافت الكثير من الفرق الجديدة على العرض في "الفن ميدان" في ميدان عابدين، لتعرض أمام ما يقرب أحيانًا من 3 آلاف متفرج، برغم من أنه دون مقابل ورغم مشاكل الصوت المتكررة، وعزوف فرق كبيرة مثل كايروكي لا تحتاج "الآن" لهذا الجمهور، خاصة بعد انحسار مد الثورة ومجد الغناء في الميادين.

مفهوم الاستقلال
يقول رامي أبادير في مقاله أن "المقصود بهذا الاستقلال هو الاستقلال عن الموسيقى السائدة (mainstream) أو الجماهيرية" وبأن " من الواضح حدوث تفكك للمفهوم ولم يعد الاستقلال الموسيقي حكراً على الثقافات الفرعيّة، بل أصبح مجرّد اختيار الفريق أو الفنان لآليّة الإنتاج بغض النظر عن المنتج."
كان يتحدث هنا عن النموذج الأوروبي والأمريكي. ربما يمكن بالفعل استخدام مصطلح الاستقلال إذا كنا نريد هذه الدلالة. ولكن ماذا عن الاستقلال المالي والفني؟
يقول شارل عقل عن نفس الموضوع أن "الموسيقى مستقلّة ماديّاً، أي لا يتحكم رأس المال في القرارات الموسيقيّة وليس له القرار الأخير فيما يخص الخيارات الفنيّة. فلا تفرض شركة "بيبسي" مثلاً أغنية تتضمّن "بيبسي يا حبي يا حتة من قلبي"، ولا يفرض منتج جملة معيّنة لأنّها "ستنج تجاريّاً". ويضيف: "إذا كان القرار النهائي لحسم أي خلاف فني ومتعلّق بالذوق والمنتج النهائي لصاحب رأس المال، لا يعود المنتج مستقلاً ... فحتّى عمرو دياب إذا كان له الرأي النهائي في منتجه الموسيقي، مع إنتاج أعظم الشركات الفنيّة لأعماله، فيعدّ مستقلّاً، خصوصاً إن كان الترويج والتوزيع لمنتجه قائم على اسمه شخصيّاً، وليس اسم الشركة المنتجة. لكن من الناحية الأخرى، إن طلب من فرقة صغيرة أغنية بمناسبة الاحتفال بـ"انتصار أكتوبر المجيد" مثلاً مقابل أجر، فلا يعد العمل مستقلاً. "
لدينا هنا تعريفان، الأوّل أن المستقل هو ما ليس تيار سائد، والثاني أن المستقل هو المستقل في اتخاذه للقرارات والاختيارات الفنية. مشكلة التعريف الثاني أنه لا يساعد في مشكلة التمييز بين التيار السائد والأندرجراوند. تمسّك عمرو دياب بحرية الاختيار الفني وعدم تركها لشركة روتانا لا يجعله يخرج من التيار السائد (لا يجعله مستقلا)، كما أن ترك مريم صالح حرية الاختيار الفني لشركة إيقاع، مثلا في تجربة موسيقية ما، لا يُدخلها في التيار السائد (لا يجعلها غير مستقلة). ببساطة، الاستقلال في اتخاذ القرارات الفنية عن المنتِج لا يمكن أن يكون هو فقط أساس تعريف "الاستقلال" عند مناقشة مصطلح الموسيقى المستقلة. ربما لهذا أرى مستقبلا أقل من الاختلاف إذا اعتمدنا مصطلح الأندرجراوند. جدير الذكر أيضًا أن بعض نجوم التيار السائد ينتجون لأنفسهم من مالهم الخاص أحيانًا، بالضبط مثلما يفعل دائمًا الكثير من فناني تيار الأندرجراوند، فحتي تعريف الاستقلال الموسيقي بعدم الاعتماد على شركات الإنتاج والاعتماد على النفس يمكن ألا يحل المشكلة.

تذييل قصير

عدد كبير من فناني الأندرجراوند لا يدرك أن عليه أن يسعى للاحترافية. الاحترافية تعني شيئين: الجودة الفائقة في المنتَج، والتربّح من المهنة، أي أن يكون هذا هو مصدر الربح الذي تعيش منه. وعدد كبير أيضًا يعمل بوظيفة أخرى لينفق على الإنتاج، أو يقدّم في مسابقات المنح الإنتاجية القليلة على مستوى المنطقة العربية. في الحالتين لا توجد دورة مالية، لأنه لا يوجد دخل من الحفل أو من المنتَج. لهذا تكون الحاجة للإنتاج مستمرة. هناك إيجابيات مثل الحرية في التعبير وفي اختيار الشكل الفني وفي التجريب. عدد كبير من الفنانين أيضًا يفتقر للثقافة الموسيقية والتدريب، مثل أي فئة في مصر. وعدد كبير منهم لا يزال يعمل بالرغم من أن بيئة العمل لا تزال قاسية وطاردة. هنا يمكن أن أقول أن الحياة اختيارات، ليس بين التيار السائد والأندرجراوند. وإنما بين الكفاح للاستمرار، أو الاستسلام لليأس.


أيمن حلمي

17 مايو 2014

الفن ميدان (2 أبريل 2011 – 9 أغسطس 2014) أو جرافيتي أخير على حائط الثورة



يأتي مصطلح "التطبيع" من كلمة طبع، وطبيعة، ويشير في معناه البسيط، إلى عودة الأمور إلى "طبيعتها"، والتصرّف وكأن شيء ما قد حدث، لم يحدث. في الغالب، يتم هذا بشكل مفتعل، يتضمّن الكثير من التكلّف والجهد، لصعوبة نسيان ما حدث، والتصرّف بشكل طبيعي. هكذا أفهم التطبيع.

لماذا أجدني أفتتح مقالاً عن الفن ميدان، بمناسبة عيده – أو ذكراه – الرابعة بمصطلح التطبيع؟

ارتبط الفن ميدان، بما نحب أن نسميه ثورة 25 يناير 2011.
وفكرة الفن ميدان هي إقامة فعالية ثقافية فنية مجانية في الميادين المفتوحة، تعتمد على التطوّع بالنسبة للفرق الفنية والفنانين الذين يقدّمون فقرات بها، والتطوّع بالنسبة للمنظّمين، وتعتمد على التبرّعات فيما يخص مصروفات تجهيزات اليوم. يحدث هذا في السبت الأوّل من كل شهر، في ميدان عابدين وميادين وساحات مفتوحة عديدة بمختلف المحافظات والمدن المصرية. وصل عدد الفعاليات في إحدى المرات إلى 15 احتفالية بنفس الشهر، على مستوى جمهورية مصر العربية.
على أن هذا ليس كل شيء. فما الذي يميّز هذه الفعالية عن فعاليات ومهرجانات وزارة الثقافة المصرية؟ التي يمكن أن تحدث أيضًا في الميادين؟
الفرق الأساسي هو أن الفن ميدان مساحة استثنائية من الحرية.
كان الفن ميدان مساحة حرية بمعنى الكلمة، تسمح بالتقاء أطياف مختلفة أو حتى متنافرة، ولا توجد رقابة على المحتوى ولا يوجد سقف لأي صوت يرغب في التعبير عن نفسه بهذه المساحة. بالطبع، ككل شيء، شاب هذا الوصف الثوري المثالي الذي ذكرته في الجملة السابقة بعض الشوائب، من حين لآخر. وتكمن استثنائية هذه الحرية في أنها لساعات قليلة من أحد الأيام، فهي لا تستمر؛ وأنها عشوائية أو غير منظّمة، على مستوى وجود جمهور عابر بالصدفة بالإضافة للجمهور الذي يأتي عن قصد؛ وأنه لا استبعاد لأي فئة تضم نفسها لهذا الفضاء؛ وفي عدم وجود آلية اختيار منهجية من طرف المنظّمين لفرق برامج المسرح؛ وفي حرية الفرق والعارضين شبه المطلقة في اختيار المنتج الفني الذي سيقدّمونه.
ميزة أخرى تخص الفن ميدان، هي تنوّع غير تقليدي وغير مسبوق في مجموعة المنظمين، ينعكس في ميولهم واهتماماتهم وثقافتهم، والذي تسبب في خلافات بالطبع، كانت تطفو على السطح من حينٍ لحين. بالاقتراب أكثر من هذه المجموعة، تندهش من قدرتهم على العمل معًا، وتجاوز أو تناسي المشاكل والخلافات، لقرابة 3 سنوات ونصف، وبالطبع، من قدرتهم على تنظيم الفن ميدان طيلة هذه الفترة، بدون غطاء مؤسسي ولا هيكل إداري حديدي، ودون تمويل دائم أو شبه دائم يمكن للإرهاق المادي للفعالية أن يستند إليه. من هنا، يمكننا أن نرى الفن ميدان ظاهرة ثورية بامتياز. نعم، كان الفن ميدان أحد مكتسبات الثورة، وانتصارًا رائعًا في إحدى معاركها، وهي معركة الفضاء العام.
تخيّل أن مجموعة من المواطنين – المدنيين J – يمكنهم  أن يضعوا أيديهم على ميدان بالشارع، لمدة يوم واحد ثابت شهريا، على مدار العام. ما الذي يمكن أن يبنيه هذا من تراكم؟ وفي خلال هذا اليوم، يقومون بتغيير تضاريس الميدان، فلا تعد تتعرف عليه. فتجد الساحة الخاوية والمهجورة، إلا في العادة من بعض السيارات التي تستخدمها كجراج، أو بعض الشباب أو الصبية الذين يستخدمونها كملعب كرة قدم، وقد تحوّلت إلى ساحة ضخمة تموج بآلاف البشر، وكل أشكال الفنون، والحركة، والأصوات الصاخبة، والمشاجرات أحيانًا. تحوّلت إلى عالم آخر.
وطيلة هذه الفترة، كان وضع اليد على هذه الساحة، من خلال آلية بسيطة، هي تقديم طلب تصريح لمحافظة القاهرة، وهو طلب لم يرفض قط. ما حدث هو رفض آخر.
عفوًا، نسيتُ ذكر معلومة اتضح لنا فيما بعد أنها شديدة الأهمية.
هذه الساحة، توجد أمام قصر الرئيس: قصر عابدين. أحد قصور رئيس الجمهورية، الذي لديه ما يقرب من 30 قصرًا واستراحة في كل أنحاء الجمهورية، أربعة منها بالقاهرة.
اتضح هذا لأوّل مرة في 1 سبتمبر 2012، عندما تزامن يوم السبت الأوّل من كل شهر مع زيارة رئيس الجمهورية وقتها، محمد مرسي، لقصر عابدين، حيث حاول الحرس الجمهوري وكل الجهات الأمنية إلغاء الفعالية. ولكن كان لدينا تصريح من المحافظة منعهم من فرض ما يرغبون دون إطلاق نيران صديقة. لهذا تمكّنّا بعد أخذٍ وردٍّ من تنظيم اليوم، بعد تأخير دام لأربع ساعات.
وتجلّت أهمية المعلومة المذكورة أعلاه بشكلٍ أكثر وضوحًا في 1 أغسطس 2014، عندما رفض الحرس الجمهوري المسيطر على ميدان عابدين لأوّل مرة التصريح المعتاد الذي قدّمه لهم المنظمون من محافظة القاهرة، وطلب تصريحًا أمنيًا من قسم الشرطة. مأمور قسم عابدين طلب أن تكون صيغة طلب التصريح هي نموذج طلب التظاهر الذي يجب ملئه وتقديمه لمن يرغب في التظاهر، وفقا للقانون الجديد، وهو ما رفضه المنظمون بالطبع. طافت بخاطري وقتها فكرة موقفهم من فعالية "فنية" أو "سياسية" أمام القصر الجمهوري. ربما يرونه أمرًا لا يليق.
وبعد بيان أصدره المنظمون، ذكروا فيه رفض القوة الأمنية المسئولة عن تأمين قصر عابدين والتابعة لرئاسة الجمهورية فتح ميدان عابدين، وبعد توسّط دكتور جابر عصفور وزير الثقافة وقتها لدى وزير الداخلية بعد اتصال المنظمين بالأوّل، وافقت الداخلية وبالتالي الحرس الجمهوري على تنظيم الفن ميدان بنفس اليوم. ولكن قرر المنظمون تأجيل الفعالية لأسبوع لضيق الوقت والحصول على الموافقة في وقت متأخر. وفي أوّل سبتمبر 2014 أتى الرفض الواضح من الأمن لمنح الفن ميدان التصريح لإقامة فعالية السبت 6 سبتمبر 2014.
بالطبع، هناك دائمًا مبررات يطرحها الأمن، أهمها الحفاظ علينا واهتمامهم بأمننا الشخصي. وإن تحلّى بعضهم أحيانًا بالصراحة، كما حدث في هذه المرة، ليخبرنا أنهم يروا في دعوة الفن ميدان في يوليو الماضي للدكتور أحمد حرارة، أشهر مصابي الثورة، وترْكِه ليصرّح برأيه في النظام الحاكم على المسرح، نوعًا من نكران الجميل من جانبنا، في ظل أنهم يسمحون لنا باحتلال ساحة "ميدانهم". رسالة لا ينقصها الوضوح.
قبل الثورة، كانت العروض الفنية في الأماكن العامة ممنوعة. ولكن يمكن تقديم طلب تصريح من الأمن بالعرض في الشارع وتقديمه للجهات الأمنية، التي يمكنها الرفض أو حذف ما يلزم من النص. كان هذا في ظل قانون الطوارئ (أكتوبر 1981-مايو 2012) الذي كان يجرّم التجمّع بشكل عام، ويفرض القيود على حرية الأشخاص في الاجتماع والانتقال والمرور، الخ. لا يحتاج المرء للكثير من الذكاء ليدرك أهمية الفضاء العام، وإمكان المسيطر عليه الضغط للحصول على انتصارات سياسية – كما حدث جزئيًا في 11 فبراير 2011، أو ليفهم خطورة تراكم الخبرات وقوة التأثير، وربما إمكانية زيادة مساحات الفضاء العام التي يتم احتلالها. في العيد الأول للفن ميدان، أبريل 2012، قمنا بتنظيم فعالية فنية احتفالية ضخمة في ميدان عابدين، بهذه المناسبة، بمشاركة مشروع كورال، ومدرسة الدرب الأحمر للفنون، وإسلام سيبشي وعمرو سعد، ونغم صالح، ورامي عصام، ومسار إجباري، وفرقة إسكندريلا. كل هؤلاء.
هذه الأسماء تجعلك تفكّر في حجم الجمهور الذي يمكن أن يسعى خلف هؤلاء الفنانين والفرق، وحجمه الممكن بمرور بالوقت. لا توجد إحصاءات دقيقة بعدد جمهور الفن ميدان. ولكن العدد التقديري هو أنه في المتوسط كان يحضر الفعالية في ميدان عابدين ما يقرب من 4000 شخص، وربما مثلها في كل المدن الأخرى مجتمعة، شهريًا. يوحي لك هذا أيضًا بالدور الذي يمكن أن تساهم به هذه الفعالية مثلا في "الحرب على الإرهاب"، وفي المساهمة في بناء خطاب ثقافي يفكك من الطائفية أو التطرّف الديني.
ولكن المشكلة الرئيسية في رأيي هي في تلك المعركة التي أشرتُ لها: السيطرة على الفضاء العام. فمساحة الحرية تسمح بوجود انتقادات للنظام السياسي الحاكم، أيًا كان. من منا يحتمل النقد؟ خاصةً في زمن الصوت الواحد.
والمشكلة أيضًا في مفهوم الدولة لوظيفة الأمن. ما هي؟ هل يؤمنون بأن الفضاء العام من حق المواطنين وأنه على الأمن أن يقوم بتأمينهم في حالة استغلالهم للميادين؟
في أكتوبر 2010 كانت مؤسسة مصريين ضد التمييز الديني تعمل على تنظيم مهرجان اسمه "مصر لكل المصريين" في حديقة الأزهر، ووافقت مؤسسة المورد الثقافي على استضافة المهرجان بمسرح الجنينة. وقتها رفض الأمن السماح بتنظيم الفعالية بعد أن كان قد وافق بالفعل. ولم يوافق أحد على اعطائنا ورقة بالرفض، ولا ورقة بالتصريح. لماذا يمنع الأمن فعالية عن الوحدة الوطنية؟ كانت أحد التفسيرات التي بدت لي منطقية حينئذٍ، مع لا منطقيتها الساخرة، هو أن الأمن فعل هذا لا لشيء، فقط لأنه "مش عايز وجع دماغ".
نقطة أخرى هامة تخص الفن ميدان، هي الفنانون الذين لا تدعمهم الدولة بأي شكل من خلال تمويلات مباشرة أو غير مباشرة، ولا تفتح لهم مسارحها، أو إذاعتها، ولا توفر لهم أماكن للبروفات أو أستوديوهات، بل وتطاردهم من خلال أذرعها النقابية الرسمية، التي تخيّرهم ما بين الانضمام لها أو دفع "غرامة" متكررة أو السجن، بصلاحيتها في الضبطية القضائية. هؤلاء الفنانين استطاعوا من خلال الفن ميدان الخروج للشارع والتفاعل مع الجمهور دون وسيط، ودون أبواب مسارح مغلقة ودون تذاكر، ودون مشاكل إنتاج، ودون رقيب ينبغي موافقته أولا على النص أو الفقرات. حدث هذا للكثير منهم لأوّل مرة. كانت هذه روح الثورة. لهذا أرى أنه من الضروري توثيق هذه التجربة الهامة وما حدث بها، وتواريخها، وصورها، وأبطالها، وجنودها المجهولين، من أجل المرة القادمة.
نعم، أومن بأن هناك مرة قادمة.
وهناك أسئلة هامة، سيكون من المفيد بحث إجاباتها الآن. مثل، لماذا لم يقم جمهور الفن ميدان العظيم بنفسه بالاستمرار في تنظيم الفعالية، بعد أن أوقفها الأمن؟ هل كان يجب إشراك أهل المنطقة أكثر في التنظيم لبناء علاقة أكثر عمقًا؟ هل أصاب المنظمون عندما قبلوا– في النهاية – أثناء المفاوضات مع الأمن من أجل التصريح، مبدأ تغيير الميدان بمكانٍ آخر؟ ولماذا توقفت مؤخراً حركة مسرح الشارع التي زاد حضورها في الأماكن العامة بشكل ملحوظ بعد الثورة؟ وهل يمكن إعادة الفن ميدان دون موافقة الأمن وتصريحه؟ وهل إقامته مثلا بالتعاون مع وزارة الثقافة لتيسير الحصول على تصريح من الأمن ستخلّ بروحه وطبيعته، فيضحى شيئًا آخر؟ ومتى يمكن أن تكون المرحلة الثانية من حياة الفن ميدان، هل سترتبط بوجود حركة ثورية على الأرض أو بولادة وعي مختلف، أو ربما حاجة ما، لدى الجمهور أو الفنانين؟ والأهم، ما الذي يمكن أن نفعله في المرة القادمة، لكي يصعب على الأمن إيقاف الفعالية بقرار؟
لن يتّفق معي كثيرون في غلق القوس الذي وضعته بالعنوان، لتبدو التواريخ وكأنها الميلاد والنهاية: (2 أبريل 2011 – 9 أغسطس 2014). فهناك من يعتقد بإمكانية استمرار "الفن ميدان" مرة أخرى. الآن.
أتمنى هذا. ولكني أعتقد أنها ستكون مرحلة جديدة من عمر الفن ميدان، وشكل جديد. لأن الفن ميدان لم يُقذف إلى العالم من العدم. أتى من بيئة إبداعية وخلاقة في الشارع، ومن مدد ثوري ارتفع يومًا ليصل إلى أعلى ما يمكن أن تصل إليه أعيننا. ثم صار هذا الآن حكاية من حكايات الماضي. أشياء كثيرة ينبغي أن تعود، حتى يعود هو، كما نعرفه.
في رأيي أن الفن ميدان كان التغيير الوحيد الملموس على الأرض بعد الثورة، فيما يخص الفن والثقافة. أغلب التغييرات التي حدثت بعد الثورة بوزارة الثقافة أو المؤسسات الثقافية الحكومية تمت السيطرة عليها، سلميًا أو بشكلٍ نصف سلمي، وتمت إزالة آثار العدوان. كان آخر هذه الآثار هو الفن ميدان. الجرافيتي الأخير على حائط الثورة.
كان الفن ميدان أشبه بجرافيتي للثورة. أحد ملامحها الخاصة، التي يمكنك أن تتعرف عليها بها. لهذا، سيكون من الطبيعي أن يحاول من لا يحب أن يتذكرها أو أن يتذكرها أحد، يحاول طمس هذه الملامح. مثلما جرت عادة طمس جرافيتي الثورة على الحوائط، أو استبداله بجرافيتي "آخر". من الطبيعي أن يسعى الأمن لكي ينُسينا ما حدث، وكل الآثار التي تذكّرنا بما حدث. لكي يعود الأمر "طبيعيًا" بالنسبة له، ولنا. ربما حتى بتغيير شكل ميدان عابدين الذي أعتدنا عليه، كما يحدث الآن. لن تتعرف عليه إذا زرته اليوم، من أعمال الحفر والهدم غير المفهومة التي تتم به. ميدان سعد زغلول بالإسكندرية أيضًا، والذي شهد تنظيم فعاليات الفن ميدان لفترةـ تمت إحاطته بالأسوار، وكأنها خطة ما لتغيير شخصيته كفضاء مفتوح. وعلى الجانب الآخر، سيجانبنا الصواب إذا تصرّفنا وكأن شيء لم يحدث للثورة. إذا تصرفّنا وكأن جرافيتي الثورة لم يزل بألوانه الزاهية، منتصرًا على الجدران. على جرافيتي الثورة أن يعترف، أنه لن يعتلي الحوائط اليوم، إلا باهتًا.
على أن الصورة ليست بهذه القتامة، التي تبدو عليه.
صحيح أننا لم نعد نغني. ولكنّا لم ننسى الغناء. ولم ننسى أيضًا كم أحببنا تلك اللحظات التي جمعتنا بالسعادة على غير موعد، بينما نحن نغني.

لهذا، وبرغم كل شيء، يمكن رؤية بداية ما، في هذه النهاية.

قبل 25 يناير 2011، لم يكن من المقبول أن نحتفي بمثل هذه الأغنية:

"ولما الثورة قامت نزلنا في كل البلاد
موتنا على الحرية وسقوط رموز الفساد
ما سكتناش ما هديناش ما لسا النظام موجود
داخلية الكلاب والظلم في كل مكان موجود
أقتل في الثورة كمان
كلمة حر ليك جنان
مهما يزيد بطش السجان
قدام صوتي يكون جبان"
(من أغنية "حكايتنا" – أولتراس أهلاوي)

أيمن حلمي

5 أبريل 2015