سيزيف مصري

في الأسطورة الأغريقية، سيزيف في الجحيم وعقابه أن يرفع صخرة من القاع حتي قمة جبل شاهق، وقبل أن يصل بقليل تسقط منه لأسفل، فيعود ليبدأ من جديد، بلا نهاية. ما أشبه ذلك بنا، أولادك يا بلدي

Sunday, October 30, 2011

مع الشهداء ذلك أفضل جدًا






يومان قضيناهما فى المشرحة، يومان مع جثامين تناضل للاحتفاظ بلقب شهيد، تناضل ضد نظام مبارك كله؛ ليس فقط عسكر مبارك الذين دهسهم، ولا إعلام مبارك الذى سحب منهم لقب شهيد ونعتهم بالقتلة، ولا نيابة مبارك التى تملصت من البحث عن حقهم، بل ناضلت الجثامين لتحتفظ ببهاء يليق بالشهادة فى مشرحة مستشفى حكومى فقير منعدم الإمكانيات. ناضلت ضد خرافات عصر مبارك القائلة إن التشريح تمثيل بحرمة الميت لا انتصارا لحقه، ناضلت ضد سطوة فقهاء وقساوسة السلطان القائلين إن الباحث عن العدالة فى الحياة الدنيا وكأنما تخلى عنها فى الآخرة، ناضلت ضد طائفية مبارك التى تجعل فقير يرى فى فقير مثله عداوة ليلتهى عمن سرق لقمة عيشهما.

يومان برفقة موت رحيم وخجل لا يرحم، لماذا يا ربى أغلب شهدائنا فقراء؟ كيف ميزت المدرعة والبندقية؟ الدم واحد والقبر واحد ومع ذلك خذلنا الشهادة مرة تلو الأخرى.
مصر معجبانية وبتختار أحلانا، ومينا دانيال زين ما اختارت. لولاه ما انتصرنا فى المشرحة.


طوبى للضعفاء

جاءوا للمستشفى بالمئات بحثا عن أجساد جريحة لعلاجها وأجساد مقتولة لدفنها، جاءوا للمستشفى بحثا عن مأوى فى ليلة تجسدت فيها كل مخاوفهم، جاءوا للمستشفى بحثا عمن يشاركهم الغضب، بحثا عن قوة فى العدد. جاءوا كقطيع الكنيسة. وحاصر المستشفى معتدون مدنيون (ربما هم المواطنون الشرفاء الذى يخاطبهم عسكر مبارك ليل نهار) وبتواطؤ من حماة الأمن وحماة الثورة ليؤكدوا لهم ألا انتماء لكم سوى لقطيع الكنيسة.

جئنا نحن نبحث عن رفيق ميداننا، صاحب البسمة الساحرة، مينا الذى يشبهنا ونشبهه. اختارت الشهادة مينا لأنه ينتمى لقطيع الميدان والثورة، هكذا فهمت من أسرته التى أصرت أن تشرك زملائه فى كل قرار ــ لأنهم زملاؤه. ناضل مينا من خلف ستار العالم الآخر لتنفتح قلوب أهالى الشهداء لنا ونصبح رفاق كفاح واحد. فالدم واحد والدمع أيضا واحد، وكما رأينا الحقيقة فى دموع أمهات الشهداء بعد أن افتقدناها فى شاشات التليفزيون رأوا الحقيقة فى دموعنا. فهموا أننا رفاق مينا ونسوا أن يسألونا عن أسامينا بالريبة المعتادة.

أصدر المستشفى تقريره على نهج ماسبيرو: ماتوا بسكتة قلبية، أو كانت مشاجرة؟ تقدم القساوسة بنصيحتهم: لندفنهم سريعا فالجو حار والمشرحة بلا ثلاجات. تدخلنا نحن بغرور الميدان وسذاجته: ماذا عن العدالة؟ ماذا عن القصاص؟ هؤلاء آخر فرصة لإثبات الجرم، نحتاج لتقرير طب شرعى.

أى خبل هذا، أنمثل بأجساد أبنائنا بحثا عن عدالة لم نرها ولا مرة؟ ولا حتى مصادفة؟ أى عدالة ونحن فقراء؟ أى عدالة ونحن أقباط؟ أى عدالة والقاتل يحكم؟ ألا تفهمون أننا ضعفاء؟

لكن بين صفوفنا مينا، وكانت أخته أول من وافق على التشريح، وبدأوا يقتنعون الواحد تلو الآخر، على مضض وتحت إلحاحنا وتشجيع الحقوقيين، ساعات من البكاء والنقاش والأحضان. نحارب الزمن خلالها بألواح ثلج ومراوح بائسة عسى أن تكون محبتنا كافية للحفاظ على طهارة الجثامين.

بمطلع نهار اليوم الثانى جاءت النيابة لتجد نصف الأهالى يطالب بالتشريح، فأصدر سيادة القاضى فرمانه: إما أن يصدر تصاريح دفن أو تكليف للطب الشرعى، أليس الكل فى الموت سواء؟ وطبعا لم يبخل القساوسة بنصائحهم: رفاقهم سيصلى عليهم سيدنا بعد وقت وجيز، لو تأخرتم يكون قد رجع إلى قلايته، ارحموا أبناءكم فجزاؤهم فى الجنة كبير.

وقفنا صفا واحدا على جبهة صراع مع النظام، لكن هذه المرة الجبهة فى العقل، وخط النار على القلوب. وكما انهزم النظام أمام صفوف الهتاف وصفوف الطوب، انهزم أمام صفوف التضامن. بعد سجال طويل أصدرت النيابة أمر بتشريح كل الجثامين.. بشرط أن نؤمن نحن عمل لجنة الطب الشرعى.

نعم، بدأ الأمر بأننا مسئولون عن تأمين تظاهراتنا، ثم تطور لنصبح مسئولين عن تأمين المنشآت العامة، وها نحن اليوم مسئولون عن تأمين موظفى الدولة إن أردنا أن تتصرف الدولة وكأنها دولة. لم نشغل نفسنا بسؤال «وما دور الشرطة والجيش»، فالإجابة واضحة على أجساد الشهداء.

قلنا للأهالى التشريح سيطول، دعونا ننقل الجثامين لمشرحة زينهم حيث الإمكانيات أفضل. عاد الخوف إلى عيونهم؛ صحيح نقل مينا لهم عدوى الإيمان بمصر، لكن ماكينة الإشاعات لم تتوقف عن العمل وعصابات الشرفاء لم تتوقف عن ترويع الجمع طوال الليل. لم يقولوها صراحة إكراما لنا لكننا فهمنا: لن نترك الحى القبطى، فنحن لا ندرى أى شر ينتظرنا خارجه.

كان علينا إذن أن نؤمن المستشفى، ونضمن للجنة ظروفا مناسبة للعمل. كان علينا أن نخلى المبنى من آلاف خائفة، ونضبط سلوك آلاف غاضبة. وما نحن إلا قلة دخيلة. كان علينا، ويا للمفارقة، أن نقوم بدور يشبه دور الأمن المركزى. جبهة جديدة ولا نملك إلا وحدة صفنا.

بدأت اللجنة عملها تحت حمايتنا، وتحت إشراف محامينا وأطبائنا، جنودنا المجهولين الذين خبروا كل مظاهر الظلم فأصبحوا أعلم بشواهد القتل والتعذيب وقرائن الجرائم والمذابح من خبراء الطب الشرعى. باشرت اللجنة عملها وكلنا قلق أن يدخل أحد الأهالى ويرى المشرط فى جسد ابنه فيهيج، أو أن تنهار صفوفنا أمام هجوم الشرفاء أو غضب المنكوبين.


مملكتى ليست من هذا العالم

تقلق وحدة صفنا كل المستفيدين، وأخطرهم تجار القضية، حلوا علينا بسمهم المعسول: أتثق فى تلك المحامية؟ دى شابة ومش عارفة حاجة.. أنا عندى خبرة طويلة، ومين دول؟ دول كلهم مسلمين، تأمن لهم إزاى؟ لقد حذرتنا من شهور يا مينا عندما قلت لنا: ضرورى ينضم ماسبيرو للتحرير، ضرورى مطالب الأقباط تبقى مطالب الشعب ومطالب الشعب تبقى مطالب الأقباط. والاختبار صعب يا مينا، فالسلطة غشيمة تضرب بعشوائية، أما هؤلاء فيعرفون موضع الجرح بدقة. قضينا باقى اليوم نحارب شائعاتهم الكاذبة واتهاماتهم الباطلة. نعيد كسب ثقة الجمع ونعيد له هدوءه.

قمنا بدور تصورنا فى البداية أنه شبيه بدور الأمن المركزى، لكن شتان، لن أفهم أبدا بعد اليوم كيف يتصور أى جهاز أمنى فى أى مكان فى العالم أن العنف وسيلة فعالة فى ضبط سلوك جماهير غاضبة أو خائفة، من الذى أشار على كل حكومات الأرض أن النزول بسلاح فى مواجهة جماهير سيهدئهم؟ لم نملك سلاحا أمام موجات الغضب إلا الأحضان، رمينا أجسادنا أمام الجموع وبالحضن وبدموع تبكى الشهداء استطعنا أن نبدد ضلالات واقع طائفى عسكرى وننشر حقيقة حلم مصر الحرة.

يا مينا، مصر الميدان هشة ممكن رصاصة واحدة طائشة تطيح بها.. يا مينا، مصر الميدان قوية ممكن حضن واحد ينقذها.. يا مينا، فى حضرتك فهمت تعاليم الأنبياء، متى يفهم العسكر؟

عندما بدأت لجنة الطب الشرعى عملها تذمر الخبراء من نقص الإمكانيات، من سوء الظروف، من فرض رقباء عليهم، ولكن فى النهاية فرض عليها أن تقوم بعملها. عندما قاربت اللجنة على الانتهاء من التشريح وبدأت فى كتابة أسباب الوفاة فجر أحدهم إشاعة أن التقارير كاذبة، ولأن أسباب الوفاة قد تذكر جرحا واحدا فقط هو القاتل حتى لو كان بالجسد عشرات الجروح صدق أهالى الشهداء وهاج الجمع وانهارت صفوفنا.

ونحن على شفا الانتصار واجهنا أصعب محنة، الأهالى آمنت بحلم العدالة، وتركتنا نعبث بأجساد أبنائها، وفاتها كرامة أن يصلى عليهم سيدنا بل وقد يتأخر الدفن لليلة أخرى، ضحوا بكل ما طلبنا منهم أن يضحوا به رغم ترددهم فى البداية، والآن يريدون ضمانا، يريدون أن يحسوا بتلك العدالة، ونحن نقدم لهم كلاما تقنيا وكعابيل قانونية غير مفهومة. لماذا يقول التقرير دهس بمركبة ثقيلة؟ الحق بيّن وكلنا نعلم أنها مدرعة، لماذا لا يقول مدرعة؟ ما هذا المقذوف النارى؟ لماذا لم تكتبوا «رصاص ميرى؟»، ألم تعدونى بعدالة؟ أين اسم الجانى وكلنا نعرفه؟

لم أعِ متى انتصرنا، فقد كنا غارقين فى تفاصيل التفاصيل، لكن فى لحظة نظرت حولى فوجدت وحدة صفنا صارت تشمل العاملين فى المستشفى والأطباء والقساوسة. ماذا فعلت يا مينا؟ هل أيقظ ضعف ورقة حال أهلك ضميرهم أم أيقظت قوتك خيالهم؟ هل تخطينا كل تلك الحواجز فى ساعات فعلا؟ بل انضم لنا أطباء الطب الشرعى أيضا، كان الحل الوحيد هو أن نجلس مع كل أسرة على حدة، نشرح معنى أسباب الوفاة، والتفاصيل التى ستضاف لتقرير الطب الشرعى، ودور النيابة، ودور المحامين، وانتقلت العدوى للطبيب الشرعى وتحول من مجرد موظف إلى مشرف على العدالة، ربما عندما اضطر أن يترجم لغة تقارير اعتاد ألا يقرأها إلا الأقوياء إلى لغة الضعفاء تذكر أن الحق دائما مع الضعفاء؟ رأيتهم يصفون ملامح الشهداء للأهل ليطمئنوهم أنهم ليسوا مجرد جثث، ليثبتوا أنهم يعرفونهم ويهمهم ذكراهم. رأيت ما استشهدت أنت من أجله يتحقق ولو للحظة.

فى طريقنا للكنيسة كان انتصارنا كاملا، لم يعد أحد يسأل عن اسم من شارك فى حمل الشهداء، ومن قاد الهتاف، هل كان مسلما من اقترح أن نهتف «يا نجيب حقهم يا نموت زيهم»؟ يا له من سؤال سخيف. الدم واحد والدمع أيضا واحد.


فأدر له الخد الأيسر

قبل المستشفى القبطى كنا فى مستشفى آخر بعيدا عن الأحداث، ننتظر صورة أشعة على قدم أحمد المصاب برصاص حى.

وجدنا أحمد فى شارع طلعت حرب، كان يحاول مع رفاقه إنقاذ الوطن بالعودة لميدان التحرير. لم يكن قد مر على سقوط الشهداء إلا ساعات معدودة، لم يفكر الشباب فى موازين القوة، هل عددهم يكفى أم لا، ما العمل والقوات غير المسلحة (وفقا للمؤتمر الصحفى العالمى) تطلق الرصاص بسخاء. فكروا فقط فى هول ما سيحدث إن تُرك الميدان لمظاهرة المرتزقة التى انطلقت بمباركة الجيش والشرطة تهتف «إسلامية إسلامية». كنا جميعا نعلم أنها مظاهرة مفتعلة، محاولة لصبغ مذبحة عسكرية بصبغة أهلية وإلصاق التهمة بالسلفيين.

بدا لنا أحمد كبطل أسطورى وهو يقاوم زملاءه رافضا الذهاب إلى مستشفى متعللا بأن الجرح خفيف وأكيد الطلق مجرد خرطوش. أقنعناه أن نذهب لمستشفى خاص بعيد عن الأحداث وحملناه على أكتافنا. فى التاكسى حكى لنا أنه اعتقل وذاق تعذيب الجيش الذى لا يخطئ وجرب «نزاهة» قضائه العسكرى، حكى لنا عن إصابته فى موقعة الغدر بالعباسية. لم تمنعه الإصابات من النزول مجددا فى مواجهة الرصاص.

فى المستشفى بعد أن اكتشفنا أنه مصاب برصاص حى لا خرطوش حل علينا ضابط مباحث لاستجوابه، أبهرتنا صلابة أحمد وهو يرد على الضابط بكل برود وتحد، وأبهرنا أكثر اشمئزازه من تعليق ضابط المباحث «مسلم يعنى» عندما سأل عن اسمه. هل كان سيمنعه من العودة إلى بيته لو كان مسيحيا مثلا؟

لم يتبين لنا أن أحمد ضعيف مثلنا إلا من بكائه فى حضننا عندما طهر الطبيب جرحه، ولم ننتبه إلى أنه فتى فى سن الثانوى إلا وهو يرد بخوف على والدته فى المحمول: «ماسبيرو إيه بس يا ماما، لا أنا خارج مع أصحابى».

هل يعرف اللواء حمدى بدين أن بين صفوفنا من يخاف والدته الحنون أكثر مما يخاف الرصاص والمدرعات؟ هل سمع المشير هتافنا «يا مشير يا مشير من التحرير هنزف عريس» ونحن نصحب مينا فى زيارته الأخيرة للميدان؟ هل يفهم أى من العسكر معنى زيارة أم خالد سعيد لأم مينا دانيال؟ أم أنهم نسوا الدم والدمع والحضن والحلم ولم يعد لهم مكان فى صفوفنا حتى بعد أن اتسعت لتشمل من خذلونا من قبل؟

Saturday, October 15, 2011

لا تلم إلا المجلس العسكري على مشاكل مصر




لا تلم إلا المجلس العسكري على مشاكل مصر




جوشوا ستاتشر، الثلاثاء 11 أكتوبر، 2011

مساء الأحد، تعرضت مظاهرة سلمية لهجوم من أفراد من الشرطة المصرية بملابس مدنية ومن الجيش المصري. بينما مات العشرات وجُرح المئات أذاع التليفزيون المصري أخبارا تحريضية عن أقباط تهاجم الجنود. انتهى كثيرون إلى إلقاء اللوم على الطائفية وليس القيادة العسكرية التي أشرفت على حمّام الدم. الحقيقة أن قدرة المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر على تجنب المساءلة عن أفعاله هو جوهر كل المشاكل في مصر اليوم.
لا زالت خرافة الفترة الانتقالية في مصر راسخة، وتُلقى مسئولية هذا الركود في المرحلة الانتقالية للبلاد على الحركات الاحتجاجية المنقسمة، وعمال القطاع العام الساخطين، وعمال المصانع، والفلاحين في الريف. وعندما لا تكون هذه القصة كافية، فهناك الأحزاب السياسية القديمة ولكن غير الفعالة، والأحزاب الإسلامية المختلفة الطامعة في المنافسة الانتخابية، ومجلس الوزراء الضعيف، حيث يتم جمع كل هؤلاء من أدوارهم الداعمة لتُلقى المسئولية عليهم. سواء هذا أو ذاك، يتم وضع مسئولية هذه المرحلة الانتقالية المتداعية في مصر، وبالكامل، على أعتاب المدنيين الذين صنعوا الثورة. حتى التركيز على الانتخابات البرلمانية، والمواقف السياسية للمرشحين الرئاسيين الحاليين، أو دستور سوف تتم كتابته، لا يتم وضعه في مكانه الصحيح ... على الذين يملكون السلطة بالفعل.


يبدو أن الآراء تجتمع على أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يتكون من رجال شرفاء حدث أنهم يحكمون بالصدفة، وهم يستجيبون للأحداث على نحو غير بارع، ولا يطمعون في السلطة. وتُلقى مسئولية الفشل المتكرر على عدم الكفاءة وليس تعمّد الأذى. في هذه الرواية، يريد المجلس الأعلى للقوات المسلحة الإشراف على الانتقال للديمقراطية ولكنه يرتكب الأخطاء على نحو متكرر بينما هو يحاول التعامل مع المطالب المتعارضة للشعب قليل الصبر ومع سلسلة لا تنتهي من الأزمات.
لا يقتصر هذا الموقف على الغرب – تظهر استفتاءات الرأي العام في مصر نسبة 90% من الناس تدعم الجيش على نحو ثابت، مما يشير إلى أن استراتيجيتهم تعمل، على الأقل، بدرجة ما.
لا ينبغي أن يتقاسم أي أحد مسئولية هذه الحالة المؤسفة للمرحلة الانتقالية للدولة المصرية. المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو المسئول وبدرجة لا تُقارن بأحد، وعليه اللوم بدرجة لا تُقارن بأحد بخصوص الطريقة التي تم بها بناء الفترة الانتقالية. سواء بوضع قوانين جديدة ضد المتظاهرين، أو نشر المحاكمات العسكرية ضد النشطاء والمعارضين على نحو استراتيجي، أو الاستمرار في تطبيق قانون الطوارئ، أو ابتداع قوانين انتخابية تشجّع على عدم التماسك الاجتماعي، أو تنظيم مصادمات ذات صبغة طائفية، أو إرهاب الصحافة ورقابتها، تمثّل مصر تحت حكم المجلس العسكري محاولة لاستمرار ممارسات فترة حكم مبارك بالرغم من التغييرات الاجتماعية التي أطلقتها التعبئة الشعبية للثورة. ليس من قبيل الصدفة أن الكثير من النشطاء الذين شاركوا في ثورة 25 يناير يعارضون الآن وبشدة المجلس العسكري.


لا تدع أفعال المجلس الأعلى للقوات المسلحة على مدار السبعة أشهر الأخيرة مجالا للشك بخصوص استحقاق المجلس للوم. إنهم نخبة نظام لم يتغير إلا جزئيا، يحاولون إعادة بناء النظام بالصورة التي يرونها. بينما يضعف موقفه بسبب مباغتة التعبئة الشعبية غير المتوقعة، لا يزال المجلس العسكري عازما على إعادة تشكيل السلطة التنفيذية بدرجة كبيرة بنفس الطريقة التي كانت تعمل بها السلطة أثناء فترة حكم مبارك. الاختلاف الوحيد أن الآن المجلس العسكري "هو" السلطة التنفيذية.


مفتاح فهم أفعال المجلس هو ألا تراه على هذه الدرجة من عدم الكفاءة. هناك دافع استراتيجي خفي، ولكنه ذو هدف واضح، وراء زيادة المجلس لسلطته لأقصى حد ممكن وتشكيله لنظام يمكنه السيطرة عليه. لا تعمل النتيجة دائما وفقا للخطة، ولكن الجنرالات استخدموا كل فرصة واتتهم لزيادة سلطتهم القانونية لأقصى حد ممكن بطرق لا تؤدي إلى بناء بيئة سياسية تشمل الجميع: كتابة دورهم في الدستور فوق دستوري في مارس، واللجوء للمحاكم العسكرية ضد المتظاهرين المدنيين، ومد قانون الطوارئ، والتغاضي عن وعدهم بترك السلطة في خلال ستة أشهر، والسعي للحفاظ على إعفاء ميزانيتهم من الرقابة البرلمانية، وغيره. سجل الأعمال واضح.
استغل المجلس العسكري الامتيازات العديدة لتولية شئون البلاد لمحاولة إعادة تشكيل السلطة التنفيذية وتعزيزها. يحاول المجلس الأعلى عن طريق إقرار استخدام القمع والتلاعب بالنظام القانوني أن يكون له سلطة "الفيتو" على المرحلة الانتقالية ليضمن أنه لن يحدث تغيير جوهري في النظام في مصر. ولأنه يعمل من وراء مجموعة من المؤسسات تعمل كنقاط تفتيش، فالقنوات الرسمية التي يمكنها أن تُلقي بالمسئولية على المجلس العسكري بسبب أفعاله مغلقة تماما. حتى وعدهم بإجراء الانتخابات ونقل السلطة إلى الحكم المدني كان الهدف منه خفض أي تهديد لسلطتهم لأقصى حد ممكن. يضمن القانون الانتخابي محل الجدل، الذي تم الإعلان عنه من جانب واحد في أواخر سبتمبر الماضي ثم تمت مراجعته تحت الضغط الشعبي، أن يكون للإسلاميين وأعضاء الحزب الوطني الديمقراطي السابق موضع الصدارة، بينما يمد البرنامج الزمني للانتخابات الرئاسية لتكون في 2013.


يجادل البعض بأنه يمكن الوصول لصفقة مقبولة تسمح برئيس مدني ولكن بينما يحتفظ العسكر بمزاياهم، التي تشمل عدم وجود رقابة مدنية على ميزانيتهم أو أي مسائلات لممتلكاتهم الاقتصادية. ولكن، هناك اختلاف قليل بين امتلاك السلطة والاحتفاظ بالامتيازات. ترتيب مثل هذا لن يمكن تمييزه عما كان عليه وضع الجنرالات في مصر مبارك – هذا إن لم يعط الجنرالات مكانة أقوى من هذه التي تمتعوا بها تحت قيادة مبارك.
يبدو أن المجلس الأعلى وحلفاءه الأقوياء في الغرب يرتاحون - أو ربما يتذكرون في حب صورة - لمصر ذات سلطة تنفيذية مسيطرة. وبالفعل، يبدأ بعض من لغة وأفعال مسئولي الولايات المتحدة في العودة للشكل القديم. في يونيو 2009، قال الرئيس أوباما أن مبارك كان "قوة للاستقرار والخير" في المنطقة. قامت وزيرة الخارجية بتعديل الجملة قبل التصريح بأن المجلس الأعلى للقوات المسلحة "قوة للاستقرار والاستمرار" في مصر، يوم 28 سبتمبر. في هذه الأثناء، نجح وزير الدفاع في سرقة لحظة "عفوية" لعب فيها البولنج مع الجنرال طنطاوي، رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، أثناء زيارته للقاهرة في الرابع من أكتوبر.


هذا الموقف الذي توجد فيه محاولات من المجلس الأعلى للقوات المسلحة لإعادة تصميم سلطة تنفيذية مهيمنة وإعادة قائمة مبارك من السيطرة إلى سابق عهدها لن يتركه أصحاب الثورة بلا مسائلة. سيتطلب الأمر ويستلزم وجود تعبئة شعبية مستمرة إذا كان يجب الإنصات للأصوات الديمقراطية. استغلت الحركة الاحتجاجية ما يزيد عن عشر سنوات من التعلم لكي تقهر وتهزم ماديا جهازا كان قسري وقادرا إلى حد بعيد، في يناير وفبراير الماضيين. لن تجلس هذه الحركة مكتوفة الأيدي بينما تشاهد العسكر يواصلون بهدوء بسط سيطرتهم التي فوق المسائلة على الدولة. محاولة المجلس العسكري لفرض الاستقرار والسيطرة على مصر ما بعد الثورة هي، ووحدها، ما يجر البلد إلى هذا الدرك من الأزمات.

جوشوا ستاتشر أستاذ مساعد بقسم العلوم السياسية بجامعة كِنت ستيت. سيصدر كتابه " Adaptable Autocrats: Regime Power in Egypt and Syria" من جامعة ستانفورد في ربيع 2012.

هذه ترجمتي للمقال الذي نشر بمجلة فورين بوليسي الثلاثاء الماضي