"من نيويورك للمحلة ... ثلاث صور أسرتني" - خلالد فهمي عن 6 إبريل
ثلاث صور علقت بذهني وأنا أتابع الأحداث التي شهدتها البلاد منذ إضراب 6 إبريل.
الصورة الأولى هي صورة الصبي أحمد علي مبروك حمادة، 15 سنة، الذي قتل إثر إصابته بعيار ناري أطلقته الشرطة على شرفة منزله في المحلة. والصورة لفتى وديع تظهر لمدة ثواني قصيرة في ختام شريط فيديو عرضته مدونة "الوعي المصري" بعد نجاح وائل عباس، صاحب المدونة، في كسر الحصار المفروض على المدينة والوصول إلى أسرة القتيل. وفى هذا الشريط يشرح والد الصبي أن أحمد كان يعمل على الكومبيوتر حتى ساعة متأخرة من الليل أنه حثه على النوم مبكرا، وهو ما قام به الصبي بالفعل إلا أنه استيقظ عند سماعه جلبة في الشارع وعندما خرج للشرفة لاستطلاع الأمر عاجلته رصاصة اخترقت رأسه. حاول الأب طلب الإسعاف ولكن قيل له إنهم لن يأتوا، عندها أسرع الأب بإبنه إلى أقرب مستشفى إلا أن الصبى كان قد فارق الحياة. "صبي خمستاشر سنة، متربي، مصروف عليه، مقفول عليه باب ... قفلنا الباب والشبابيك لكن جالنا غضب ربنا من فوق"، هكذا لخص الخال مأساة الأسرة.
أما الصورة الثانية فهي لأحمد آخر، أحمد حسين، 16 سنة. في يوم الإضراب فضل أحمد الابتعاد عن الأحداث الساخنة وتوجه لاصطحاب أخته إلى البيت بعد انتهاء يومها الدراسي، إلا أن الأمن اعترض طريقه وانهالوا عليه بالعصي والهراوات بل حتى بالرصاص، الأمر الذي استدعى نقله للمستشفى حيث خضع لعملية جراحية استئصلت له فيها أجزاء من إمعائه بعد تهتكها الشديد نتيجة لاختراق الرصاص لها. والصورة التي نشرتها البديل له تظهره في مستشفى السلام الدولي بالمحلة وهناك خرطوم مربوط بأنفه ويده مكبلة بالكلابشات في السرير نتيجة إصرار الأمن على اعتباره من "البلطجية" الذين تظاهروا في المدينة واعتدوا على المنشآت، حسب وصف الداخلية.
الصورة الثالثة لإسراء عبد الفتاح، 28 سنة، منسقة الموارد البشرية بإحدي الشركات الخاصة والعضوة بحزب الغد. إسراء كانت قد نجحت في استقطاب 70 ألف من جمهور موقعها على الـ"فيس بوك" الذي طالبت فيه بإضراب عام وعصيان مدني سلمي. والصورة المنشورة لها على مواقع عدة على الإنترنت تظهرها خلف القضبان في عربة شرطة بعد القبض عليها وتوجيه تهم "التحريض علي إضراب ٦ أبريل وإثارة الشغب وحيازة المنشورات". وتقبع إسراء الآن في الحبس بعد أن أمرت نيابة قصر النيل بحبسها 15 يوما على ذمة التحقيقات.
تلخص هذه الصور الثلاث عمق الأزمة التي يعاني منها النظام الحاكم ومقدار الأذى الذي يلحقه بنفسه نتيجة اعتماده المفرط على الأمن. فالطريقة التي تعاملت بها الشرطة مع أحداث المحلة أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها غير قانونية وغير دستورية. فقوات الشرطة في محاولاتها حفظ الأمن لا يتسنى لها أن تطلق الرصاص الحي أو المطاطي بشكل عشوائي على المتظاهرين، وبالطبع لا يفترض منها أن تطلق النار على الصبية في شرفات منازلهم. أما تكبيل المصابين بالكلابشات في أسرة المستشفيات، حتى وإن كانوا "بلطجية" ومتهمين بإثارة الشغب، فهو إجراء ينتهك الدستور والقانون ويتعارض مع أخلاقيات مهنة الطب.
إن هذه الإجراءات إضافة إلى عدم دستوريتها وعدم شرعيتها تنم عن حمق سياسي بالغ الخطورة، فالتعامل بهذه الرعونة مع ما تراه الشرطة تعديا على الأمن لن يؤدي إلا إلى زيادة الاحتقان والتوتر، فمن يمكنه التعاطف مع نظام لا يكتفي بالقبض على شابة تدعو إلى عصيان مدني سلمي بل يطلق النار على صبي يقبع في بيته يستذكر دروسه فيرديه قتيلا وينهال ضربا على آخر أثناء محاولته الرجوع للبيت مع أخته ثم يكبله في سرير المستشفى خوفا من فراره؟
على أن هذه الصور الثلاث توضح أيضا فداحة الثمن الذي يدفعه شباب هذا البلد نتيجة انسداد أفق العمل السياسي أمامه. فسياسات النظام القمعية التي تبدّي الأمن على أية اعتبارات أخرى انتجت ليس جيلا واحدا فقط بل جيلين من الشباب الذي ولد وشب ووعى ولم يعرف إلا رئيسا واحدا يقبع على رأس السلطة. وإن كان كل من أحمد حمادة وأحمد حسين يمثلان شابين دفعا ثمنا مأساويا نتيجة هذه الشلل السياسيى، فإن إسراء عبد الفتاح تعطي لنا نموذجا واعدا لما يستطيع أن يحققه الشباب في كسر هذا الجمود ، فباتباعها أساليب جديدة وانتهاجها وسائل مبتكرة نجحت إسراء (مع غيرها من شباب الـ"فيس بوك") في تحقيق ما عجزت عن تحقيقه الأحزاب السياسية بقادتها العواجز، أي تشكيل حركة واعدة تنشد التغيير بطرق سلمية.
ولكن يبقى التحدي الذي يواجه إسراء (على أمل خروجها سريعا من الحبس) وغيرها من أبناء جيلها والمتمثل ليس فقط في التعامل مع نظام لا يرى السياسة إلا بمنظور أمني ولكن (وهذا هو التحدي الأكبر) في ابتكار آليات عمل تزاوج بين العالم الافتراضي بما يحمله من إمكانات هائلة وبين العالم الواقعي بكل أثقاله ومشاكله.
وبشكل أكثر تحديدا يجب على هذا الجيل الذي يصر على استرداد وطنه المسلوب منه أن يعمل على ملء الفراغ المؤسسي الذي خلفته سياسة أمنية قضت على الأحزاب والنقابات والجامعات والصحافة وغيرها من المؤسسات التي كان لها الفضل في النهضة المصرية في القرن العشرين. إن التحدي الذي يواجه هذا الجيل ليس أقل حجما من التحدي الذي كان يواجه جيل الثلاثينات والأريعينات. وإن كان هناك درس نتعلمه من تاريخنا الحديث فهو أنه لا يكفي لمجموعة من الشباب أن تتحلى بالوطنية والشجاعة حتى تستطيع أن تضع البلاد على الطريق المنشود (عندما استولى عبد الناصر ورفقاؤه على السلطة لم يكونوا أكبر من إسراء سوى بعامين أو ثلاثة)، وأنه بدون أن يراكم هذا الجيل خبرة سياسية حقيقية لن يكون حظه أحسن من الأجيال التي سبقته.
كيف يمكن لهذا الجيل الواعد أن يفلت من قبضة النظام الأمنية وأن يطور مهاراته السياسية والتنظيمية وفي نفس الوقت كيف يتمكن من التحلى بحس نقدي في تعامله مع أدواته الافتراضية: ذلك هو التحي المزدوج الذي يواجه جيل الـ"فيس بوك".